الإنسان قد يتحطم لكنه لا يهزم |
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يوم كنا على مقاعد الدرس في المرحلة الثانوية كان من ضمن منهاج اللغة العربية حصة للقصة وكانت القصة للكاتب الأمريكي أرنست همنغواي تحت عنوان الشيخ والبحر وأكثر ما علق في ذهني منها حتى الآن عبارة " الإنسان قد يتحطم لكنه لا يهزم "
رغبت أن أشرككم في أمر حدث معنا في إحدى الرحلات دون تخطيط مسبق أو قصد
قصدنا مع بعض الشباب بحيرة اصطناعية هي عبارة عن سد مقام في منطقتنا منطقة الحفة التابعة لمحافظة اللاذقية بهدف الترويح والإستجمام , وصلنا وجهتنا وأعتدنا مقاعدنا كل على هواه ثم بعد إعداد الطعام وتنظيف الأطباق منه انبرى أحدنا لصنع الشاي على الحطب وبعضنا حمل قصبة صيده وتوجه قبل الماء ملق صنارته دون ان يعيرها السمك بالا وكأنه نذر في ذاك اليوم لله صوما فلن يلتقم اليوم من صنارة إنسيا ، وعني رميت القصبة لأسباب منها أني لا احب قتل الأسماك وأفضل أن أشتريها وقد قام بذلك شخص آخر ولأني أريد أن أسترخي تحت أشعة شمس الربيع وأرتشف الشاي بهدوء , حملت الكأس بيمناي ورنى بصري الى بقعة من اليابسة وسط الماء ارتفعت عنه لتشكل جزيرة صغيرة جافة فالتمعت في ذهني فكرة أن أشرب الشاي على تلك الجزيرة الصغيرة
لكن الفكرة بدت حمقاء قليلا فكيف الوصول اليها ؟ والماء لا يزال باردا ورؤية شخص في ثياب السباحة تلك الأيام سيبدو أكثر حمقا من هذه الفكرة ثم ان خلع الثياب والسباحة لن يسمح بحمل الشاي الى هناك
رأيت ان المسافة الفاصلة بين الجزيرة والشاطئ قصيرة نوعا ما و قد لا تصل العشرين مترا فاتقدت فكرة بناء جسر يصلني الى الجزيرة لكن ما هي المواد التي سأستعملها ؟
رسمت مخططا في ذهني أنه يمكن إستعمال أغصان الطرفة " أثل " التي تملئ الشاطئ وتسبب لنا إزعاجا بسيطا كلما تطاير غبار طلع أزهارها الكثيف لكن الفكرة كادت توءد قبل ان تولد فليس معنا أداة لتقطيع الأشجار
تذكرت وأنا في الطريق الى أني رأيت متربا للفحم وهو مكان يستعمله الحطاب لإنتاج الفحم بشكل غير مرخص فقلت في نفسي عساه نسي فأسا أو منجلا على متربه فأستعيره دون إذنه لأستعمله لحاجتي ثم أعيده لمكانه
لم أجد منجلا أو فأسا لكني وجدت معولا باليا أظن صاحبه استغنى عن خدماته فرماه مهملا فحملته وعدت الى الشباب قائلا : شو رأيكم نشرب الشاي هناك ؟ , مشيرا الى الجزيرة !!
رد أحدهم بإستغراب واستهجان قائلا : كان لازم تنزل مناقصة علّ الخرافي ينفذ لك المشروع (الخرافي صاحب شركات إنشائية ويقوم بتنفيذ طريق اللاذقية حلب منذ أكثر من عشر سنوات ولم ينته والطريق يحوي عشرات الجسور الضخمة بسبب التضاريس الجبلية القاسية )
وقال آخر : انتظر حتى ينزل مستوى السد آخر الصيف وبعدين نشرب الشاي هناك
واستدرك الثالث :" رح أنزل عاللاذقية واشتري لك شختورة زغيرة تا نقطع لهناك "
لكن عبارة همنغواي دفعتني لإثباتها وقلت : بل سنبني سدا الى هناك
قال قائل : كيف ؟ !
قلت : من أشجار الطرفة والتراب
قال آخر : وبماذا نقطع الأغصان والأشجار ؟ !
أجابه الأول متهكما : بأسنانا
قال الثالث : وهل نحن قنادس ؟
قلت ليست القنادس أشد منا فلديها اسنان قاطعة ولدينا سواعد ماضية
مع نهاية الجدل تخاذل فرد من المجموعة وتعاجز عن الفكرة قاطعا أنها لا يمكن تنفيذها وحمل قصبته وكأس شايه وانعزل جانبا منشغلا يحاول صيد سمك مضرب عن الطعام
بقينا ثلاثة أصغرنا سنا ونسميه زيكو كان مقتنعا أننا يمكننا فعل ذلك وشمر للعمل منتظرا ان أملي عليه كيف يبدأ
أما الثاني فليس مقتنعا بالفكرة لكنه لم يعارض ويتوقع الفشل أكثر مما يتوقع النجاح لكنه على ما يبدو قال في نفسه خير المرافقة الموافقة
بدأنا بأقرب شجرة محاولين كسرها من الجذع لكن مرونة الطرفة شديدة وتقاوم الكسر حتى انه يصعب تحديد كيفية قطعه ويخيل لرائي الجذع المقطوع ان إنسانا من العصر الحجري قام بقطعه بواسطة الحجارة
لكننا تغلبنا على أول خطوة مما زادنا عزيمة ونشاطا
رمينا الشجرة في الماء
ثم عدنا الى شجرة أخرى وكان بعد ان اكتسبنا خبرة مع سابقتها ان تمكنا منها بسرعة وجهد أقل
وظهر أن عملاقا قام بقطعها بيديه
ثم رميناها فوق أختها
وعدنا الى الشجرة الثالثة منقضين عليها كالصاعقة وكانت أسهل من سابقيها أو هكذا خيل إلينا
وظهر مقطعها وكأن صاعقة ضربتها
وتوالى التقطيع بسرعة حتى صار الجسر على الهيكل لكنه صالح لمرور القطط والنسانيس فقط
فبدأنا باستعمال أغصان رفيعة لسد الفجوات تمهيدا لوضع التراب فوقها
وبدأ زيكو بوضع التراب بواسطة المعول التالف
وظهرت تباشير بداية الجسر
واستمر الجسر بالنمو طولا بشكل أسرع
وأسرع
حتى كاد يقارب النهاية عند الضفة الأخرى
نهايات الإجراءات
وآخر رفش تراب
وفوق الجسر ظهرت آثار أقدام الإنسان الذي لا يقبل الهزيمة
وقد تكون خطوة صغيرة لكنها عظيمة لقهر التخاذل
ثم نظرت الى الأفق متسائلا عما يستطيع فعله الإنسان لو استبعد اليأس والعجز وصدق رسول الله حين استعاذ منه بالله حيث قال اللهم إني أعوذ بك من الهم والعجز والحزن او كما قال
وهنا لم ذراعيه من الوسيط رابعنا العاجز الخنوع وبعد ان رأى نتيجة الجهد فأراد ان يكون له فيه نصيب وحمل رفش تراب ورماه فوق الجسر كما يستن برمي حفنة من التراب قبل القيام عن دفن الميت لكننا أحيينا ميتا وصار يلزمنا شرطي مرور لتنظيم المرور فوق الجسر الذي لا يتسع إلا لعابر واحد باتجاه واحد
وهاهي المكافئة فهاهو الثاني الذي كان بين بين حين بدأنا لكنه التحق بالجماعة بعد خروجه عن الطاعة
وكما قال نيل ارمنستروغ " هذه خطوة صغيرة لإنسان لكنها قفزة كبيرة للإنسانية " وما كان يبدو مستحيلا ويحتاج الخرافي و القنادس والزوارق لإنجازه قد تم بدونها
وتمكنا من شرب كأس الشاي حيث أردنا بعد جهد دام قرابة نصف النهار
أصعب ما يعيق تقدم الأمم هو الجبن والعجز واستخفاف بما في اليد
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)
هنا التحديد الإلهي فالإعداد ليس محددا بل قد المستطاع وعلى الله الباقي فـ
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:160)
دائما يوجد بين أفراد الأمة أمثال رابعنا وأولنا أو أوسطنا لكن على الأمة الاستفادة من الجميع وألا يحبطها رابعنا
"قرأت الخاطرة على الجميع وأجبتهم جميعا عدا رابعهم الذي اعترض على رقم أربعة لكنني أقنعته انه يستحق الرقم أربعة "
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دمتم بود