أحمد ابراهيم شحادة ( 1949 – 2010 )
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيله
الخالد في قلوبنا ما حيينا
الطفل أحمد:
لم تكن طفولة أحمد شحادة طفولة عادية, فقد جمع بين التفوق والموهبة والعمل. كان حاد الذكاء مجتهداً طموحاً في الدراسة وفي الحياة. في المدرسة كان طالباً مجداً مهذباً ومحبوباً من قبل مدرسيه وزملائه. كما كان يساعد والده في العمل حيث كان يجلس في دكانه في غيابه دون أن يرفع نظره عن الكتاب المدرسي كي لا يضيع وقته. وما كان يميزه أيضاً تعدد مواهبه حيث برع في الرسم والرياضة والموسيقى والتصوير. أما في البيت فكان باراً لوالديه عطوفاً على إخوته حيث كان يساعدهم في دراستهم رغم انشغاله بدراسته. كان مرجعاً لجميع أقاربه يلجؤون إليه في أي شيء ويلبيهم بكل رحابة صدر.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أحمد الطبيب:
عرف عن الدكتور أحمد أنه كان طبيب الفقراء لأنه كان يعالجهم دون ثمن, لكنه في الواقع كان طبيب الجميع من فقراء وأغنياء عدا عن الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها. كان يهتم بالحالة ويتابعها حتى يصل لتشخيصها, ولم يهتم بوصف الدواء قدر اهتمامه بمعالجة الحالة التي قد تحتاج لعلاج أبعد من الدواء, من خلال سؤال مرضاه عن تفاصيل مهمة تكشف طبيعة الحالة وتقوده بالتالي لتحديد العلاج الأمثل لها. كان يربط الأعراض في معظم الأحيان بعوامل نفسية أو تربوية أو اجتماعية, وهذا ما ميزه عن باقي الأطباء الذين يلتفتون للعوامل العضوية فقط, حتى أنه تفوق على بعض الأطباء النفسيين من خلال إحساس المرضى بقربه لهم, وهذا القرب بين الطبيب والمريض عامل أساسي في نجاح العلاج النفسي. كان يصغي للجالس أمامه بروحه وعقله وجوارحه دون أن يغفل كلمة أو عبارة أو تفصيلاً قد يكون المفتاح للولوج إلى داخله, وعندما يفرغ من الإصغاء ويبدأ الكلام كان يبث الراحة في قلوب مرضاه, وكان بهدوئه ووقاره يدفعهم لعقد العزم على الاقتداء بكلماته بحذافيرها دون أدنى تشكيك بالنتائج, فكانوا يخرجون من عيادته في وضع مغاير تماماًُ للوضع الذي كانوا عليه قبل دخولها. وإذا صادفته إحدى الحالات الغامضة, كان يهم بالبحث والتقصي دون كلل ليعرف ماهيتها عبر الرجوع للكتب لدراستها وتحليلها والتشاور مع زملائه الاختصاصيين. لقد جمع بين العناصر الثلاثة التي تميز الطبيب الناجح وهي العلم والخبرة والإنسانية.
هوايات متعددة:
لعل أهم أسباب نجاح الدكتور أحمد إحساسه بأهمية الوقت, فلم يكن يمر يوم دون أن يستثمره بما هو مفيد. وكانت الموسيقى تشغل الحيز الأكبر من وقت فراغه حيث استهوته منذ شبابه فبدأ بالتعلم على آلة العود بشكل ذاتي من خلال دراسة النوط الموسيقية والاستماع لأشرطة الكاسيت. كان العود صديقه الأثير وملاذه الوحيد يلجأ إليه للتنفيس وتفريغ همومه والترويح عن نفسه. وتطورت اهتماماته الموسيقية شيئاً فشيئاً حيث خطا خطوة أخرى في هذا المجال في بداية التسعينيات بانضمامه لفرقة التراث والموسيقى في المركز الثقافي التي كانت في بداية نشأتها. وبعد فترة وجيزة تحول من عازف عود في الفرقة إلى قائد لها حيث نذر نفسه لإنجاحها وتطويرها والحفاظ عليها حتى وفاته. وكان أحد القلائل الذين واصلوا المشوار مع الفرقة حيث تبدل معظم أعضائها ومنهم من عاد إليها بعد غياب في حين تركها البعض بشكل نهائي إما بسبب الظروف أو لأسباب أخرى. كان سر نجاح الدكتور كقائد للفرقة مرهوناً بعدة عوامل: أولها اجتهاده الدائم الذي كان يتجلى في اختيار المقطوعات والأغاني وسعيه الحثيث للحصول عليها مهما بلغ من الصعوبة, وتدوين نوطها وتدقيق كلماتها إضافة لتدريب أفراد الفرقة من عازفين ومغنين على أدائها. علاوة على ذلك كان صبوراً في تعامله مع الأعضاء من خلال سماع آرائهم ومحاورتهم واحترام وجهات نظرهم, كما كان قاسماً بينهم حيث أجمعوا على احترامه لأن دافعه الأول والأخير كان استمرارية الفرقة فلم يكن يحب الظهور ولم يكن يبالي بالشهرة حتى أنه عرض في أكثر من مناسبة أن يستلم غيره قيادتها لكن أحداً منهم لم يقبل. كما انه رفض تكريمه من قبل المركز الثقافي في أحد المهرجانات الموسيقية فكرموه في المهرجان الأخير غيابياً ودون علمه حيث كان على فراش المرض يصارع الموت. فضلاً عن ذلك لم يكتفِ باليوم الأسبوعي المخصص لتدريبات الفرقة في المركز حيث خصص يوماً آخر للتدريب في منزله, ورغم عدم محبته للسفر كان يدب فيه الحماس الشديد لمرافقة الفرقة إلى مناطق عدة في القطر لإحياء أمسيات تراثية في المراكز الثقافية التابعة لتلك المدن أو المشاركة في مهرجانات محلية كمهرجان ربيع حماه أو في حفلات النقابات كنقابة المحامين.
يظن الكثير من الناس أن أحمد شحادة كان عاشقاً لوسيقى التراث فقط, لكنه في الحقيقة كان يعشق كل ما تطرب له الأذن قديماً كان أم حديثاً, فالطرب لا يقتصر على التراث والتراث لا يعني ضرورةً الطرب. ومن أمثلة ذلك إعجابه ببعض الأغاني التي راجت في الثمانينيات والتسعينيات وما بعد الألفية لمغنين أمثال ملحم بركات وراغب علامة وجورج وسوف, والتي كانت تتردد في كل بيت, حتى أنه قام بعزفها على العود منفرداً ومع الفرقة في بعض السهرات العائلية حيث كانت تشدو بها أصوات مصيافية معروفة مثل أحمد خلف وأحمد الحلو و شادي رزوق.
من اهتمامات الدكتور أحمد الأخرى حبه للقراءة التي كان يخصص لها وقتاً محدداً يومياً, وكانت قراءاته تشمل الطب والثقافة والأدب والسياسة حيث كان يتابع كل جديد في تلك المجالات. كما كان يهوى الشطرنج وكان مولعاً بكتابة الشعر الموزون المقفى, و فيما يلي بضعة أبيات كتبها منذ سنوات:
استنسخ العلماء يوماً نعجة وعلا الضجيج لآخر الصيحاتِ
وتصوروا قد ينسخون مماثلاً هيهات أن يتمكنوا هيهاتِ
لكن قلبي فاق كل علومهم ببساطةٍ وبرقةٍ وأناةِ
نسخ الحبيب مخبأً في عمقه مستغرقاً في أروع اللحظاتِ
يصغي لهمسة نبضه مترنماً لهفاً ليبدع أعذب النغماتِ
أحمد الإنسان:
لم يكن أحمد شحادة طبيباً بارعاً وموسيقياً متميزاً وشخصاً معطاءً فحسب, بل كان أيضاً إنساناً محباً ودوداً مسالما. كان يكره المشاكل وينأى بنفسه عن المهاترات, وقد أسفر ذلك عن احترام وتقدير جميع من عرفه. لم يكن يتدخل فيما لا يعنيه, لكنه لم يكن يتوانى عن التدخل للإصلاح ذات البين إذا كان الطرفان مقربين له, كما ساهم في بعض الزيجات الناجحة من خلال جمع الطرفين أو الإصلاح بينهما عند حدوث مشكلة. لم يعرف الكره في حياته لذا لم يكن له أعداء باستثناء أعداء النجاح وهم قلة من الناس لا يخلو منها أي مجتمع.
أما في البيت فكان مثال الزوج المخلص الملتزم. لقد جمعه الحب وزوجته منذ الصبا ورافقهما في مراحل حياتيهما حتى تكلل بالزواج. لم يكونا مجرد حبيبين أو زوجين أو شريكين, فما كان يميز علاقتهم الصداقة المتبادلة التي يفتقدها كثير من الأزواج في مجتمعنا وغالباً ما يتسبب فقدها في فشل الزواج. كانا يتشاطران الهموم ويتشاوران في كل كبيرة وصغيرة ويتحملان أعباء الحياة سوية. لقد كان رجلاً يحترم المرأة بكل ما في الكلمة من معنى. قد يخطىء البعض في الظن أن الرجل يقدر المرأة عندما يحترم حريتها أو يساعدها في الأعمال المنزلية أو في رعاية الأولاد فقط, لكن ما تحتاجه المرأة أهم من ذلك بكثير. وكان الدكتور أحمد من الرجال الذين يفهمون المرأة ويعون قيمتها ويدركون احتياجاتها؛ كان ذلك جلياً في علاقته بزوجته وابنته وأخواته وبنات إخوته, حيث كنَّ يبحن له بأسرارهن ويفضين بمكنوناتهن مهما بلغت من الحساسية دون خجلٍ أو وجل.
وبالنسبة لأولاده كان أباً حنوناً متفهماً, فكان يستمع لآرائهم ويحترم قناعاتهم ويتفهم رغباتهم. لم يكن يتدخل في قراراتهم حتى المصيرية منها, فكان يدعهم يتخذون قراراتهم بأنفسهم, محتفظاً برأيه للحظة الأخيرة وتاركاً لنفسه الحق بتوجيههم وتصويب اختياراتهم عند الضرورة. لكنه لم يحتج لذلك قطّ ويعود الفضل في ذلك لتربيته المثلى التي أثمرت ثقته بصوابها في ثقته بهم وبخياراتهم.
فراق الأحبة:
كانت حياة أحمد شحادة حافلة بالإنجازات والعطاءات, لكنها كانت كذلك رحلة مليئة بالمعاناة. بدأت معاناته عندما كان طالباً في الجامعة حيث شخص له الأطباء قصوراً في الأبهر استدعى إجراء عملية جراحية في القلب. لقد كانت هذه التجربة كفيلة بجره إلى مستنقع اليأس, لكن إرادته وتصميمه وحبه للحياة كانوا أقوى من الظروف حيث أتم دراسته الجامعية بنجاح وتخرج من جامعة دمشق حاملاً شهادة في الطب. لكن فرحة النجاح لم يقدر لها أن تكتمل, فما لبث أن بدأ بممارسة المهنة حتى توفي والده الذي لطالما حلم بان يرى ابنه طبيباً, وترك رحيله ندبة أخرى في قلب ابنه البار. في عام 1988 كان على موعد آخر مع الحزن, حيث توفي شقيقه الأكبر محمد عن عمر يناهز الرابعة والأربعين إثر نزيف في الدماغ. رحل الأخ الحبيب تاركاً طفلين صغيرين ( ابراهيم و ميسون ) وجرحاً كبيراً في قلب أخيه أحمد الذي عاهد نفسه منذ ذلك الحين أن يكون الأب لأطفال أخيه. أما عام 1996 فشهد وفاة الشقيقة الأصغر هفاف وهي لم تتجاوز الثانية والأربعين. وبعد أعوام قليلة شاء القدر أن يبتليه بمصابٍ جديد, فغيب الموت ابن خالته وصديقه المقرب ابراهيم قهوجي (أبو فراس) تاركاً في حياة الدكتور أحمد فراغاً كبيراً لم يستطع أحد أن يملأه من بعده. وفي عام 2007 أصيبت شقيقته الكبرى منى بمرضٍ عضالٍ نادرٍ أقعدها قرابة الثلاثة أعوام إلى أن فارقت الحياة قبل وفاته بخمسة وعشرين يوماً, ورحل عن الدنيا دون أن يعلم بوفاتها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
طبيب الإنسانية في أيدٍ لا إنسانية!
مما يؤسف له حقاً أن محطة الدكتور أحمد الأخيرة في حياته كانت مكاناً رهيباً يدعى "مشفى السلام التخصصي", وكانت الأجدر تسميته "معتقل السلام". تخيلوا أن الرجل الذي أفنى عمره في مداواة الناس بكل صدق وطيبة وإخلاص لم يجد في النهاية من يداويه, بل على العكس وقع في قبضة حزارين يرتدون أقنعة أطباء. فبعد أن أجرى له العملية (الطبيب) بعدة أيام تعرض لمشاكل في الرئة أدت إلى صعوبة في التنفس, وبدلاً من أن يقوم المدعو طبيباً بمتابعة حالته والإشراف عليها كونه من أجرى العملية, شرع يتهرب من المسؤولية متذرعاً بأن العملية ناجحة وأن ما حدث طبيعي بعدها. ثم أحضر (طبيباً) صدرياً , حيث تأخر هذا الأخير بمعالجة الحالة مما جعلها تتفاقم, بل وتسبب المشفى بإدخال جرثومة للرئة نجم عنها التهاب رئوي حاد. وبسبب إهمال المشفى ( رغم أنه خاص ) تم نقله لمشفى تشرين العسكري حيث بقي حوالي الشهر, لكن القدر كان أقوى من الجميع فلم تفلح جهود الأطباء لإنقاذ حياته, وفارق الحياة بعد عذابٍ استمر لأسابيع عدة.
الوداع أيها الملاك الطاهر, وأملنا أن نلقاك في حياة أخرى تكون نعيماً للطيبين أمثالك, وأسأل الله أن يتغمدك بواسع رحمته يلهمنا الصبر من بعدك, وأن يقتصَّ ممن قصر في علاجك عمداً وتسبب في عذابك وحرماننا منك يا أعذب الناس على وجه الأرض......
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
في ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيله
الخالد في قلوبنا ما حيينا
الطفل أحمد:
لم تكن طفولة أحمد شحادة طفولة عادية, فقد جمع بين التفوق والموهبة والعمل. كان حاد الذكاء مجتهداً طموحاً في الدراسة وفي الحياة. في المدرسة كان طالباً مجداً مهذباً ومحبوباً من قبل مدرسيه وزملائه. كما كان يساعد والده في العمل حيث كان يجلس في دكانه في غيابه دون أن يرفع نظره عن الكتاب المدرسي كي لا يضيع وقته. وما كان يميزه أيضاً تعدد مواهبه حيث برع في الرسم والرياضة والموسيقى والتصوير. أما في البيت فكان باراً لوالديه عطوفاً على إخوته حيث كان يساعدهم في دراستهم رغم انشغاله بدراسته. كان مرجعاً لجميع أقاربه يلجؤون إليه في أي شيء ويلبيهم بكل رحابة صدر.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أحمد الطبيب:
عرف عن الدكتور أحمد أنه كان طبيب الفقراء لأنه كان يعالجهم دون ثمن, لكنه في الواقع كان طبيب الجميع من فقراء وأغنياء عدا عن الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها. كان يهتم بالحالة ويتابعها حتى يصل لتشخيصها, ولم يهتم بوصف الدواء قدر اهتمامه بمعالجة الحالة التي قد تحتاج لعلاج أبعد من الدواء, من خلال سؤال مرضاه عن تفاصيل مهمة تكشف طبيعة الحالة وتقوده بالتالي لتحديد العلاج الأمثل لها. كان يربط الأعراض في معظم الأحيان بعوامل نفسية أو تربوية أو اجتماعية, وهذا ما ميزه عن باقي الأطباء الذين يلتفتون للعوامل العضوية فقط, حتى أنه تفوق على بعض الأطباء النفسيين من خلال إحساس المرضى بقربه لهم, وهذا القرب بين الطبيب والمريض عامل أساسي في نجاح العلاج النفسي. كان يصغي للجالس أمامه بروحه وعقله وجوارحه دون أن يغفل كلمة أو عبارة أو تفصيلاً قد يكون المفتاح للولوج إلى داخله, وعندما يفرغ من الإصغاء ويبدأ الكلام كان يبث الراحة في قلوب مرضاه, وكان بهدوئه ووقاره يدفعهم لعقد العزم على الاقتداء بكلماته بحذافيرها دون أدنى تشكيك بالنتائج, فكانوا يخرجون من عيادته في وضع مغاير تماماًُ للوضع الذي كانوا عليه قبل دخولها. وإذا صادفته إحدى الحالات الغامضة, كان يهم بالبحث والتقصي دون كلل ليعرف ماهيتها عبر الرجوع للكتب لدراستها وتحليلها والتشاور مع زملائه الاختصاصيين. لقد جمع بين العناصر الثلاثة التي تميز الطبيب الناجح وهي العلم والخبرة والإنسانية.
هوايات متعددة:
لعل أهم أسباب نجاح الدكتور أحمد إحساسه بأهمية الوقت, فلم يكن يمر يوم دون أن يستثمره بما هو مفيد. وكانت الموسيقى تشغل الحيز الأكبر من وقت فراغه حيث استهوته منذ شبابه فبدأ بالتعلم على آلة العود بشكل ذاتي من خلال دراسة النوط الموسيقية والاستماع لأشرطة الكاسيت. كان العود صديقه الأثير وملاذه الوحيد يلجأ إليه للتنفيس وتفريغ همومه والترويح عن نفسه. وتطورت اهتماماته الموسيقية شيئاً فشيئاً حيث خطا خطوة أخرى في هذا المجال في بداية التسعينيات بانضمامه لفرقة التراث والموسيقى في المركز الثقافي التي كانت في بداية نشأتها. وبعد فترة وجيزة تحول من عازف عود في الفرقة إلى قائد لها حيث نذر نفسه لإنجاحها وتطويرها والحفاظ عليها حتى وفاته. وكان أحد القلائل الذين واصلوا المشوار مع الفرقة حيث تبدل معظم أعضائها ومنهم من عاد إليها بعد غياب في حين تركها البعض بشكل نهائي إما بسبب الظروف أو لأسباب أخرى. كان سر نجاح الدكتور كقائد للفرقة مرهوناً بعدة عوامل: أولها اجتهاده الدائم الذي كان يتجلى في اختيار المقطوعات والأغاني وسعيه الحثيث للحصول عليها مهما بلغ من الصعوبة, وتدوين نوطها وتدقيق كلماتها إضافة لتدريب أفراد الفرقة من عازفين ومغنين على أدائها. علاوة على ذلك كان صبوراً في تعامله مع الأعضاء من خلال سماع آرائهم ومحاورتهم واحترام وجهات نظرهم, كما كان قاسماً بينهم حيث أجمعوا على احترامه لأن دافعه الأول والأخير كان استمرارية الفرقة فلم يكن يحب الظهور ولم يكن يبالي بالشهرة حتى أنه عرض في أكثر من مناسبة أن يستلم غيره قيادتها لكن أحداً منهم لم يقبل. كما انه رفض تكريمه من قبل المركز الثقافي في أحد المهرجانات الموسيقية فكرموه في المهرجان الأخير غيابياً ودون علمه حيث كان على فراش المرض يصارع الموت. فضلاً عن ذلك لم يكتفِ باليوم الأسبوعي المخصص لتدريبات الفرقة في المركز حيث خصص يوماً آخر للتدريب في منزله, ورغم عدم محبته للسفر كان يدب فيه الحماس الشديد لمرافقة الفرقة إلى مناطق عدة في القطر لإحياء أمسيات تراثية في المراكز الثقافية التابعة لتلك المدن أو المشاركة في مهرجانات محلية كمهرجان ربيع حماه أو في حفلات النقابات كنقابة المحامين.
يظن الكثير من الناس أن أحمد شحادة كان عاشقاً لوسيقى التراث فقط, لكنه في الحقيقة كان يعشق كل ما تطرب له الأذن قديماً كان أم حديثاً, فالطرب لا يقتصر على التراث والتراث لا يعني ضرورةً الطرب. ومن أمثلة ذلك إعجابه ببعض الأغاني التي راجت في الثمانينيات والتسعينيات وما بعد الألفية لمغنين أمثال ملحم بركات وراغب علامة وجورج وسوف, والتي كانت تتردد في كل بيت, حتى أنه قام بعزفها على العود منفرداً ومع الفرقة في بعض السهرات العائلية حيث كانت تشدو بها أصوات مصيافية معروفة مثل أحمد خلف وأحمد الحلو و شادي رزوق.
من اهتمامات الدكتور أحمد الأخرى حبه للقراءة التي كان يخصص لها وقتاً محدداً يومياً, وكانت قراءاته تشمل الطب والثقافة والأدب والسياسة حيث كان يتابع كل جديد في تلك المجالات. كما كان يهوى الشطرنج وكان مولعاً بكتابة الشعر الموزون المقفى, و فيما يلي بضعة أبيات كتبها منذ سنوات:
استنسخ العلماء يوماً نعجة وعلا الضجيج لآخر الصيحاتِ
وتصوروا قد ينسخون مماثلاً هيهات أن يتمكنوا هيهاتِ
لكن قلبي فاق كل علومهم ببساطةٍ وبرقةٍ وأناةِ
نسخ الحبيب مخبأً في عمقه مستغرقاً في أروع اللحظاتِ
يصغي لهمسة نبضه مترنماً لهفاً ليبدع أعذب النغماتِ
أحمد الإنسان:
لم يكن أحمد شحادة طبيباً بارعاً وموسيقياً متميزاً وشخصاً معطاءً فحسب, بل كان أيضاً إنساناً محباً ودوداً مسالما. كان يكره المشاكل وينأى بنفسه عن المهاترات, وقد أسفر ذلك عن احترام وتقدير جميع من عرفه. لم يكن يتدخل فيما لا يعنيه, لكنه لم يكن يتوانى عن التدخل للإصلاح ذات البين إذا كان الطرفان مقربين له, كما ساهم في بعض الزيجات الناجحة من خلال جمع الطرفين أو الإصلاح بينهما عند حدوث مشكلة. لم يعرف الكره في حياته لذا لم يكن له أعداء باستثناء أعداء النجاح وهم قلة من الناس لا يخلو منها أي مجتمع.
أما في البيت فكان مثال الزوج المخلص الملتزم. لقد جمعه الحب وزوجته منذ الصبا ورافقهما في مراحل حياتيهما حتى تكلل بالزواج. لم يكونا مجرد حبيبين أو زوجين أو شريكين, فما كان يميز علاقتهم الصداقة المتبادلة التي يفتقدها كثير من الأزواج في مجتمعنا وغالباً ما يتسبب فقدها في فشل الزواج. كانا يتشاطران الهموم ويتشاوران في كل كبيرة وصغيرة ويتحملان أعباء الحياة سوية. لقد كان رجلاً يحترم المرأة بكل ما في الكلمة من معنى. قد يخطىء البعض في الظن أن الرجل يقدر المرأة عندما يحترم حريتها أو يساعدها في الأعمال المنزلية أو في رعاية الأولاد فقط, لكن ما تحتاجه المرأة أهم من ذلك بكثير. وكان الدكتور أحمد من الرجال الذين يفهمون المرأة ويعون قيمتها ويدركون احتياجاتها؛ كان ذلك جلياً في علاقته بزوجته وابنته وأخواته وبنات إخوته, حيث كنَّ يبحن له بأسرارهن ويفضين بمكنوناتهن مهما بلغت من الحساسية دون خجلٍ أو وجل.
وبالنسبة لأولاده كان أباً حنوناً متفهماً, فكان يستمع لآرائهم ويحترم قناعاتهم ويتفهم رغباتهم. لم يكن يتدخل في قراراتهم حتى المصيرية منها, فكان يدعهم يتخذون قراراتهم بأنفسهم, محتفظاً برأيه للحظة الأخيرة وتاركاً لنفسه الحق بتوجيههم وتصويب اختياراتهم عند الضرورة. لكنه لم يحتج لذلك قطّ ويعود الفضل في ذلك لتربيته المثلى التي أثمرت ثقته بصوابها في ثقته بهم وبخياراتهم.
فراق الأحبة:
كانت حياة أحمد شحادة حافلة بالإنجازات والعطاءات, لكنها كانت كذلك رحلة مليئة بالمعاناة. بدأت معاناته عندما كان طالباً في الجامعة حيث شخص له الأطباء قصوراً في الأبهر استدعى إجراء عملية جراحية في القلب. لقد كانت هذه التجربة كفيلة بجره إلى مستنقع اليأس, لكن إرادته وتصميمه وحبه للحياة كانوا أقوى من الظروف حيث أتم دراسته الجامعية بنجاح وتخرج من جامعة دمشق حاملاً شهادة في الطب. لكن فرحة النجاح لم يقدر لها أن تكتمل, فما لبث أن بدأ بممارسة المهنة حتى توفي والده الذي لطالما حلم بان يرى ابنه طبيباً, وترك رحيله ندبة أخرى في قلب ابنه البار. في عام 1988 كان على موعد آخر مع الحزن, حيث توفي شقيقه الأكبر محمد عن عمر يناهز الرابعة والأربعين إثر نزيف في الدماغ. رحل الأخ الحبيب تاركاً طفلين صغيرين ( ابراهيم و ميسون ) وجرحاً كبيراً في قلب أخيه أحمد الذي عاهد نفسه منذ ذلك الحين أن يكون الأب لأطفال أخيه. أما عام 1996 فشهد وفاة الشقيقة الأصغر هفاف وهي لم تتجاوز الثانية والأربعين. وبعد أعوام قليلة شاء القدر أن يبتليه بمصابٍ جديد, فغيب الموت ابن خالته وصديقه المقرب ابراهيم قهوجي (أبو فراس) تاركاً في حياة الدكتور أحمد فراغاً كبيراً لم يستطع أحد أن يملأه من بعده. وفي عام 2007 أصيبت شقيقته الكبرى منى بمرضٍ عضالٍ نادرٍ أقعدها قرابة الثلاثة أعوام إلى أن فارقت الحياة قبل وفاته بخمسة وعشرين يوماً, ورحل عن الدنيا دون أن يعلم بوفاتها.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
طبيب الإنسانية في أيدٍ لا إنسانية!
مما يؤسف له حقاً أن محطة الدكتور أحمد الأخيرة في حياته كانت مكاناً رهيباً يدعى "مشفى السلام التخصصي", وكانت الأجدر تسميته "معتقل السلام". تخيلوا أن الرجل الذي أفنى عمره في مداواة الناس بكل صدق وطيبة وإخلاص لم يجد في النهاية من يداويه, بل على العكس وقع في قبضة حزارين يرتدون أقنعة أطباء. فبعد أن أجرى له العملية (الطبيب) بعدة أيام تعرض لمشاكل في الرئة أدت إلى صعوبة في التنفس, وبدلاً من أن يقوم المدعو طبيباً بمتابعة حالته والإشراف عليها كونه من أجرى العملية, شرع يتهرب من المسؤولية متذرعاً بأن العملية ناجحة وأن ما حدث طبيعي بعدها. ثم أحضر (طبيباً) صدرياً , حيث تأخر هذا الأخير بمعالجة الحالة مما جعلها تتفاقم, بل وتسبب المشفى بإدخال جرثومة للرئة نجم عنها التهاب رئوي حاد. وبسبب إهمال المشفى ( رغم أنه خاص ) تم نقله لمشفى تشرين العسكري حيث بقي حوالي الشهر, لكن القدر كان أقوى من الجميع فلم تفلح جهود الأطباء لإنقاذ حياته, وفارق الحياة بعد عذابٍ استمر لأسابيع عدة.
الوداع أيها الملاك الطاهر, وأملنا أن نلقاك في حياة أخرى تكون نعيماً للطيبين أمثالك, وأسأل الله أن يتغمدك بواسع رحمته يلهمنا الصبر من بعدك, وأن يقتصَّ ممن قصر في علاجك عمداً وتسبب في عذابك وحرماننا منك يا أعذب الناس على وجه الأرض......