"الداخل الى مدينة غرناطة ، آخر معاقل العرب والمسلمين في الأندلس، كمن يدخل الى غبطة التاريخ وحقيقته المتأملة التي لا تزول وهي غبطة تدفعك - أنت العربي - الى 1ن تتلبث في كيمياء أمرين يتراكبان فيك دفعة واحدة : البكاء بعمق مقدس وتجريدي من جهة .. والاعجاب الناري بما تبقى من مشهد حضاري عمراني معجز اكتسب على نحو رائع سيماء الزمن .............
ترتد اليك الروح الأخرى كعربي أدمن الهزائم منذ قرون ولا تصدق أن معادلة أجدادك الاستثنائية في الأندلس ، يمكن أن ترمم فيك ما لم تعد تؤمن أنه يصلح لترميم أصلا، وتكاد إزاء ذلك كله تفضل إثارة الايمان الحي بتاريخك على التوجه نحو ذكاء التحليل والبحث في دواعي الانحدار السياسي المريع الذي أدى بالعرب الى انهيار حكمهم وزواله في شبه الجزيرة الأيبيرية ، بعد ثمانية قرون متصلة .
على أن زوال العنوان السياسي للعرب في الأندلس ، لا يعني البتة زوال أو شطب حضارتهم الزاهية وتأثيراتهم في عمق الشخصية الاسبانية الواهنة ومظاهر حياتها الثقافية والفنية ، وممارستها الاجتماعية واليومية ، مترجمة بالعادات والتقاليد والمعمار واللغة وفن العمارة والموسيقى والفلكلور والطعام والشراب الخ ..
لا تغترب كعربي معاصر في اسبانيا الواهنة من ناحية المظهر والمتحدات الخارجية من حواليك .. على العكس ، يضرب فيك مشهدها المتدفق بالأنواع والألوان بطريقة إظهار الشيء نفسه بقوة تبيان معناه الدفين فيك . إنك في الشكل النبيل إذا وأسطورته الواقعية الأكثر استحواذا على النفس .. حتى ليدفعك الأمر ولو وهما الى اللحاق بالأنموذج العربي الأندلسي القديم ، والتماهي فيه بغية امتلاك شي ء من بديهة الأبدية خلاله .
نحت فردي
إنك هنا إزاء نوع من عملية نحت فردية مضنية لتكوين حياة عربية مختلفة ، تنقصاها ولو بالانصات النظري الخالص .. تجد نفسك مضطرا لإقامة نظام حي وعذب للتوقعات ، يسطع من مرايا هذا الامتثال الحضاري الفائق الجذب والاثارة : إذ لو لم تكن هذي الحضارة الاندلسية هي هويتك على حقيقتها ومعناها في السميم ،فكيف لها أن تبث دلائلها بهذه الصلابة والشجاعة الجمالية فيك ؟
غرناطة ، هالة من المثالية والشاعرية .. انك فجأة في قلب امدائها.. مدينة عربية وسيمة بامتياز.. تقع على هضاب حمراء راسخة في تضرعها الى خالقها، ومعترفة بهذا العربي الجميل والحضاري جدا الذي بناها على إرث المستقبل.
إنها وثاق سحري خصوصي يشدك لتنغمر في أقواسه، وتصير أقل علما ومعرفة وذوقا مما كنت عليه بعد ولوجك فيه .
ومع ذلك وعلى الفور أيضا تصبح ذا طبيعة حزينة ساخرة ، ومنهوبة حتى آخر أعماقها، ولا يسعك في هذه الحال إلا أن تجد نفسك مدفوعا في اتجاه الاعتذار من التاريخ المجيد. فما أصاب أجدادك الأندلسيين من كوارث آلت الى زوال سلطتهم نتيجة الفتن والمؤامرات والحروب والانتصار بالعدو على الشقيق ، يصيب منك مقتلا، ويخرب عليك صفاءك الخارق . وهو الأمر الذي يستعاد اليوم (وان كنا أساسا في غير مقومات ما كانت عليه دولة أجدادنا في الماضي من تقدم ورقي وقوة ) وبنجاح منقطع النظير في متواليات حياتنا السياسية العربية الواهنة .
إحدى بوابات جامع قرطبة الكبير
سيد اوروبا
بعدما كان عبدالرحمن الناصر، أقوى حكام الأندلس وخلفائها على الاطلاق .. بعدما كان هذا القائد سيد أوروبا، يخضع له ملوكها ويسترضونه بمختلف الطرق والأساليب .. بعدما تألق نجمه من خلال تألق صرح الخلافة الأموية في الأندلس . وذلك بنصف قرن من الزمان (أواخر القرن الرابع الهجري)، بدأ العد العكسي للانحدار والتراجع العربي في أوروبا. فمن خلفه من حكام على الأندلس ، كانوا بشكل أو آخر ضعاف نفوس وأهواء.. شهوتهم للتحكم والسلطة خربت عليهم كل شيء. فانهاروا تباعا، وانهار معهم عرش قرطبة .. وتحولت الدولة التي كانت متماسكة وقوية يهابها الجميع الى اقطاعيات متنابذة متحاربة لا يقر لها قرار.. انها دول «ملوك الطوائف» التي وصل تعدادها الى عشرين دولة أو مملكة ، وكانت غرناطة آخرها. حيث سقطت بيد الفرنجة ومليكتهم ايزابيلا ومليكهم فردينانا.. وكان ذلك في ربيع الأول سنة 897هـ/الثاني من يناير (كانون الثاني) سنة 1492 ميلادية .
مشهد تسليم غرناطة كان دراميا وحزينا جدا، كما تقول روايات التاريخ ؟ إذ سار السلطان المنكسر أبو عبدالله الصغير مع نفر من أتباعه الى خارج المدينة ، ووقف على جسر نهرشنيل لملاقاة الموكب الملكي القشتالي المنتصر.. ثم ما لبث لدى وصول الملك الكاثوليكي أن تقدم منه ، وقبل ذراعه بمهانة وخفر (الفريسة ترتبط بمفترسها) وأمر وزيره يوسف بن كماشة بتسليم مفتاح المدينة التي قاومت لأكثر من مئتي عام ، مطيلة بذلك الوجود العربي والاسلامي في الأندلس بعدما سقطت في منتصف القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي كل ولايات الأندلس الشرقية والوسطى والغربية .
ثم تابع أبوعبدالله الصغير سيره الوئيد حتى وصل تل البذول (بادول) المشرف على غرناطة .. واستدار نحو المدينة العربية الآفلة مرددا عبارة :
«الله أكبر .. الله أكبر .. انه قدرك يارب العالمين ».. واذا بالدموع الساخنة تطفر من عينيه في الحال .
إزاء هذا المشهد الصعب ، تقدمت منه أمه بجسارة وبسالة قائلة :
«ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال ».
إثارة العشق
هكذا، لا يسعك وأنت في غرناطة الحبيبة إلا ان تستذكر هذه الواقعة التاريخية الأليمة ، وذلك مهما كانت ذاكرتك ضعيفة ، أو متسكعة في أماكن أخر. ثم تبدأ بمحاكمة ذاتك ببرودة إضمارية جارحة ... ولا تطمح في النتيجة الى أكثر من إثارة العشق .
إلا أن ما يعزيك ، ويكشح عنك ضغط هذا الفم السياسي القديم ، هو أن أجدادك وعلى مدار سبعة قرون كانوا قد عمروا نفوذا آخر مقابلا، هو أهم وأعم من النفوذ السياسي، إذ تكاد تكون معادلة هذا النفوذ هي معادلة النظام الطبيعي للاشياء.
أجل ، فكل شيء في غرناطة وغيرها من المدن والحواضر الاسبانية يشي بأنه لا يزال عربيا، حتى اللغة الأسبانية تحمل حوالي ثلاثين في المئة من مفرداتها أصولا عربية والأمر النسبي عينه تقريبا من أصواتها وطريقة نطقها، علاوة على أن النحو العربي يتحكم في تركيب الجملة الاسبانية التي تنفرد من دون اللغات اللاتينية كلها بمرونتها وامكانية تحول الجملة الاسمية الى جملة فعلية، والفعلية الى اسمية ، تماما مثل لغتنا العربية .
ولا عجب في ذلك ؟ فبعد فتح اسبانيا بقرن من الزمان ، تم تعريب جميع سكان اسبانيا. يذكر الباحث د. سليمان العطار أن أحد قساوسة قرطبة واسمه "الفارو" كان يشتكي من إقبال الاسبان على قراءة الكتب العربية ، بينما لا يستطيعون فهم الصلوات اللاتينية في الكنيسة .
ويشير د. العطار الى أن امر يكوكاسترو، شيخ المؤرخين الأسبان ، يسقط في كتابه : "تاريخ اسبانيا الاسلامية " كل التاريخ الاسباني قبل العام 711 ميلادية ؟ وهو عام الفتح العربي، ويرى أن اسبانيا اليوم لا يمكن فهم تاريخها إلا باستقراء ما حدث فيها بعد العام 711م .
وما حدث هو الحضارة الاسلامية التي أتاحت لهذا المؤرخ الكبير حل الغاز التاريخ الاسباني، ابتداء من تخلف اسبانيا عن دخول النهضة الأوروبية وانفرادها بتاريخ مستقل داخل أوروبا، وانتهاء بالحرب الأهلية الاسبانية التي وضعت أوزارها عند مطلع الحرب العالمية الثانية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع ..
ترتد اليك الروح الأخرى كعربي أدمن الهزائم منذ قرون ولا تصدق أن معادلة أجدادك الاستثنائية في الأندلس ، يمكن أن ترمم فيك ما لم تعد تؤمن أنه يصلح لترميم أصلا، وتكاد إزاء ذلك كله تفضل إثارة الايمان الحي بتاريخك على التوجه نحو ذكاء التحليل والبحث في دواعي الانحدار السياسي المريع الذي أدى بالعرب الى انهيار حكمهم وزواله في شبه الجزيرة الأيبيرية ، بعد ثمانية قرون متصلة .
على أن زوال العنوان السياسي للعرب في الأندلس ، لا يعني البتة زوال أو شطب حضارتهم الزاهية وتأثيراتهم في عمق الشخصية الاسبانية الواهنة ومظاهر حياتها الثقافية والفنية ، وممارستها الاجتماعية واليومية ، مترجمة بالعادات والتقاليد والمعمار واللغة وفن العمارة والموسيقى والفلكلور والطعام والشراب الخ ..
لا تغترب كعربي معاصر في اسبانيا الواهنة من ناحية المظهر والمتحدات الخارجية من حواليك .. على العكس ، يضرب فيك مشهدها المتدفق بالأنواع والألوان بطريقة إظهار الشيء نفسه بقوة تبيان معناه الدفين فيك . إنك في الشكل النبيل إذا وأسطورته الواقعية الأكثر استحواذا على النفس .. حتى ليدفعك الأمر ولو وهما الى اللحاق بالأنموذج العربي الأندلسي القديم ، والتماهي فيه بغية امتلاك شي ء من بديهة الأبدية خلاله .
نحت فردي
إنك هنا إزاء نوع من عملية نحت فردية مضنية لتكوين حياة عربية مختلفة ، تنقصاها ولو بالانصات النظري الخالص .. تجد نفسك مضطرا لإقامة نظام حي وعذب للتوقعات ، يسطع من مرايا هذا الامتثال الحضاري الفائق الجذب والاثارة : إذ لو لم تكن هذي الحضارة الاندلسية هي هويتك على حقيقتها ومعناها في السميم ،فكيف لها أن تبث دلائلها بهذه الصلابة والشجاعة الجمالية فيك ؟
غرناطة ، هالة من المثالية والشاعرية .. انك فجأة في قلب امدائها.. مدينة عربية وسيمة بامتياز.. تقع على هضاب حمراء راسخة في تضرعها الى خالقها، ومعترفة بهذا العربي الجميل والحضاري جدا الذي بناها على إرث المستقبل.
إنها وثاق سحري خصوصي يشدك لتنغمر في أقواسه، وتصير أقل علما ومعرفة وذوقا مما كنت عليه بعد ولوجك فيه .
ومع ذلك وعلى الفور أيضا تصبح ذا طبيعة حزينة ساخرة ، ومنهوبة حتى آخر أعماقها، ولا يسعك في هذه الحال إلا أن تجد نفسك مدفوعا في اتجاه الاعتذار من التاريخ المجيد. فما أصاب أجدادك الأندلسيين من كوارث آلت الى زوال سلطتهم نتيجة الفتن والمؤامرات والحروب والانتصار بالعدو على الشقيق ، يصيب منك مقتلا، ويخرب عليك صفاءك الخارق . وهو الأمر الذي يستعاد اليوم (وان كنا أساسا في غير مقومات ما كانت عليه دولة أجدادنا في الماضي من تقدم ورقي وقوة ) وبنجاح منقطع النظير في متواليات حياتنا السياسية العربية الواهنة .
إحدى بوابات جامع قرطبة الكبير
سيد اوروبا
بعدما كان عبدالرحمن الناصر، أقوى حكام الأندلس وخلفائها على الاطلاق .. بعدما كان هذا القائد سيد أوروبا، يخضع له ملوكها ويسترضونه بمختلف الطرق والأساليب .. بعدما تألق نجمه من خلال تألق صرح الخلافة الأموية في الأندلس . وذلك بنصف قرن من الزمان (أواخر القرن الرابع الهجري)، بدأ العد العكسي للانحدار والتراجع العربي في أوروبا. فمن خلفه من حكام على الأندلس ، كانوا بشكل أو آخر ضعاف نفوس وأهواء.. شهوتهم للتحكم والسلطة خربت عليهم كل شيء. فانهاروا تباعا، وانهار معهم عرش قرطبة .. وتحولت الدولة التي كانت متماسكة وقوية يهابها الجميع الى اقطاعيات متنابذة متحاربة لا يقر لها قرار.. انها دول «ملوك الطوائف» التي وصل تعدادها الى عشرين دولة أو مملكة ، وكانت غرناطة آخرها. حيث سقطت بيد الفرنجة ومليكتهم ايزابيلا ومليكهم فردينانا.. وكان ذلك في ربيع الأول سنة 897هـ/الثاني من يناير (كانون الثاني) سنة 1492 ميلادية .
مشهد تسليم غرناطة كان دراميا وحزينا جدا، كما تقول روايات التاريخ ؟ إذ سار السلطان المنكسر أبو عبدالله الصغير مع نفر من أتباعه الى خارج المدينة ، ووقف على جسر نهرشنيل لملاقاة الموكب الملكي القشتالي المنتصر.. ثم ما لبث لدى وصول الملك الكاثوليكي أن تقدم منه ، وقبل ذراعه بمهانة وخفر (الفريسة ترتبط بمفترسها) وأمر وزيره يوسف بن كماشة بتسليم مفتاح المدينة التي قاومت لأكثر من مئتي عام ، مطيلة بذلك الوجود العربي والاسلامي في الأندلس بعدما سقطت في منتصف القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي كل ولايات الأندلس الشرقية والوسطى والغربية .
ثم تابع أبوعبدالله الصغير سيره الوئيد حتى وصل تل البذول (بادول) المشرف على غرناطة .. واستدار نحو المدينة العربية الآفلة مرددا عبارة :
«الله أكبر .. الله أكبر .. انه قدرك يارب العالمين ».. واذا بالدموع الساخنة تطفر من عينيه في الحال .
إزاء هذا المشهد الصعب ، تقدمت منه أمه بجسارة وبسالة قائلة :
«ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال ».
إثارة العشق
هكذا، لا يسعك وأنت في غرناطة الحبيبة إلا ان تستذكر هذه الواقعة التاريخية الأليمة ، وذلك مهما كانت ذاكرتك ضعيفة ، أو متسكعة في أماكن أخر. ثم تبدأ بمحاكمة ذاتك ببرودة إضمارية جارحة ... ولا تطمح في النتيجة الى أكثر من إثارة العشق .
إلا أن ما يعزيك ، ويكشح عنك ضغط هذا الفم السياسي القديم ، هو أن أجدادك وعلى مدار سبعة قرون كانوا قد عمروا نفوذا آخر مقابلا، هو أهم وأعم من النفوذ السياسي، إذ تكاد تكون معادلة هذا النفوذ هي معادلة النظام الطبيعي للاشياء.
أجل ، فكل شيء في غرناطة وغيرها من المدن والحواضر الاسبانية يشي بأنه لا يزال عربيا، حتى اللغة الأسبانية تحمل حوالي ثلاثين في المئة من مفرداتها أصولا عربية والأمر النسبي عينه تقريبا من أصواتها وطريقة نطقها، علاوة على أن النحو العربي يتحكم في تركيب الجملة الاسبانية التي تنفرد من دون اللغات اللاتينية كلها بمرونتها وامكانية تحول الجملة الاسمية الى جملة فعلية، والفعلية الى اسمية ، تماما مثل لغتنا العربية .
ولا عجب في ذلك ؟ فبعد فتح اسبانيا بقرن من الزمان ، تم تعريب جميع سكان اسبانيا. يذكر الباحث د. سليمان العطار أن أحد قساوسة قرطبة واسمه "الفارو" كان يشتكي من إقبال الاسبان على قراءة الكتب العربية ، بينما لا يستطيعون فهم الصلوات اللاتينية في الكنيسة .
ويشير د. العطار الى أن امر يكوكاسترو، شيخ المؤرخين الأسبان ، يسقط في كتابه : "تاريخ اسبانيا الاسلامية " كل التاريخ الاسباني قبل العام 711 ميلادية ؟ وهو عام الفتح العربي، ويرى أن اسبانيا اليوم لا يمكن فهم تاريخها إلا باستقراء ما حدث فيها بعد العام 711م .
وما حدث هو الحضارة الاسلامية التي أتاحت لهذا المؤرخ الكبير حل الغاز التاريخ الاسباني، ابتداء من تخلف اسبانيا عن دخول النهضة الأوروبية وانفرادها بتاريخ مستقل داخل أوروبا، وانتهاء بالحرب الأهلية الاسبانية التي وضعت أوزارها عند مطلع الحرب العالمية الثانية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع ..
عدل سابقا من قبل ADMIN في 1/3/2009, 12:27 am عدل 1 مرات