أشياء أخرى عن ممدوح عدوان ـــ محمد أبو حمود
كان ذلك مساء الرابع عشر من الشهر الأخير عام 2004، حين شاهدته يصعد درجات المركز الثقافي في مصياف بتأنّ قسري ، يحاذيه شقيق وأصدقاء .. وكان قادماً لحضور حفل تكريمه الذي أقامته جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب ... واختار هو ( مصياف ) لتكون مكاناً للتكريم الذي جاء متأخراً.
عانقته مثل الكثيرين الذين هشّوا لملاقاته.. ودهشوا بحزن عميق لما استنتجوه من تدهور صحته .. من خلال التغير الكبير في ملامحه .. باستثناء تلك ال الساخرة المتحدية.
استذكرت يوم سمعت به أول مرة... حدث ذلك أيام الوحدة السورية المصرية، منذ أقل من نصف قرن، حين كان بطلا" لمسرحية ساخرة .. أضحكنا كثيرا"حين ألقى بطرفة حول موقع مدينة ( نيويورك ) الجغرافي ( هذه المسرحية هي ذاتها التي أشارت إليها الأديبة فاديا غيبور في تقديمها للعدد الخاص بالمسرح من مجلة الموقف الأدبي الذي صدر شهر آب من العام الماضي ).
كان اسمه تلك الأيام ( مدحت صبري ) – (وصبري اسم والده) . قرأت له لاحقاً أول ماقرأت – قصيدة في مجلة (الفتوة ) التي كانت تصدر عن الحرس القومي مطلع ثورة آذار واستظهرت من القصيدة :
بودّي لو ألملم من ندى عينيك
بلسم جرحي الضاري
بوّدي لو أفك ضمادة صد
ريَ المخزون بالنار
كذلك لم تزل في ذاكرتي من بواكير ماقرأت له .. زاوية نشرها في الصفحة الأخيرة من صحيفة الثورة منذ نحو أربعين عاماً تناول فيها حكاية ( سد مأرب ) المعروفة وذكر أن السدّ انهار – لابفعل الفئران كما تقول الروايات التاريخية – وإنما بفعل سوء تنفيذ المتعهد لبنائه؛ وإنقاصه نسبة المواد الأساسية في عملية التشييد . عندما سارعت الجهات المعنية للقبض على المتعهد؛ وجدته متوفى منذ زمن . ثم ختم ممدوح عدوان زاويته بقوله
( نتمنى في هذه الأيام أن نلحق هذا النوع من المتعهدين قبل وفاتهم )..
أليس ثمة معنى جارح في أمنية ممدوح في وقتنا الراهن؟
في وقت لاحق ذهبت إليه في جريدة الثورة بدمشق ( المبنى القديم خلف القصر العدلي ) ليساعدني في تأمين كتب جامعية لقسم اللغة الإنكليزية الذي التحقت به عام 1967 ( كان ممدوح ثاني خريج لغة إنكليزية في منطقة مصياف بعد المترجم المرحوم عبد العزيز عروس ) . كانت الكتب آنذاك تأتي من بريطانيا وتباع في المكتبات ( مكتبة صائغ ومكتبة نوبل في دمشق ) .
ثم عملت في قسم الترجمة في الصحيفة ذاتها عام 1977 .. وكان مسؤولا" عن قسمها الثقافي .. حيث تعوّد الجميع عليه وهو يملأ مبنى الصحيفة حركة فياضة بالثقافة والطرائف والضحكة الرنانة المميزة .
هاهو ذا في صالة مركزه الثقافي التي اكتظت بالناس والحب والشجن .. كأن الحضور كانوا عواسج حزينة ، ( حبيبتي زنبقة صغيرة .. أما أنا فعوسج حزين ) هكذا غنت له يوما الفنانة التشكيلية هيفاء الحاج حسين .
ثم .. صعد ممدوح المنبر .. متألقاً بتواشج فرح عميق.. وحزن أعمق . وقرأ :
الأهل في مصياف
والروح توّاقة
ياليتني صفصاف
أو زهر درّاقة
لأبلّ حلقي الجاف
في ماء ورّاقة
تتجمع الأطياف
في الروح كالباقة
يبكي لنا الصفصاف
فتحنّ كالناقة
تابوتنا
في الروح كالباقة
يبكي لنا الصفصاف
فتحنّ كالناقة
تابوتنا مصياف
والقبر .. ورّاقة
بعدها كرجت دمعتان . بكى ممدوح للمرة الأخيرة .
حدثني صديق له كيف أنه سهر معه بحضور أصدقاء قبيل مدة قصيرة .. وكيف أن الجميع بكوا ( إلاه )..
أما يوم تكريمه فقد فرض الحب الذي أحيط به.. دمعتين صبغتا القاعة بأسى عميق .. عميق.
مئة ساعة مرّت، عاد بعدها ممدوح إلى مصياف .. وقيرون في زيارته الأخيرة ..
نهض ( عن مائدة مصياف
والقبر .. ورّاقة
بعدها كرجت دمعتان . بكى ممدوح للمرة الأخيرة .
حدثني صديق له كيف أنه سهر معه بحضور أصدقاء قبيل مدة قصيرة .. وكيف أن الجميع بكوا ( إلاه )..
أما يوم تكريمه فقد فرض الحب الذي أحيط به.. دمعتين صبغتا القاعة بأسى عميق .. عميق.
مئة ساعة مرّت، عاد بعدها ممدوح إلى مصياف .. وقيرون في زيارته الأخيرة ..
نهض ( عن مائدة العمر .. ولم يشبع ) .
سأختم بما قاله يوماً في رثاء بعض من أحبته :
(حين يأتي الموت ، الذي لابد أن يأتي ، يجب أن يرانا وقد استنزفنا حياتنا حتى الرمق الأخير . عشنا الحياة بكبرياء وكرامة .. لأننا لم نترك وراءنا مالم نعشه .. وما لم ننجزه .. وما لم نستمتع به . ثم نتقدم لمواجهة الموت متخمين بالحياة مثل جبابرة ينهضون عن المائدة التي التهموا عليها الفرائس التي قنصوها) .[b]
كان ذلك مساء الرابع عشر من الشهر الأخير عام 2004، حين شاهدته يصعد درجات المركز الثقافي في مصياف بتأنّ قسري ، يحاذيه شقيق وأصدقاء .. وكان قادماً لحضور حفل تكريمه الذي أقامته جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب ... واختار هو ( مصياف ) لتكون مكاناً للتكريم الذي جاء متأخراً.
عانقته مثل الكثيرين الذين هشّوا لملاقاته.. ودهشوا بحزن عميق لما استنتجوه من تدهور صحته .. من خلال التغير الكبير في ملامحه .. باستثناء تلك ال الساخرة المتحدية.
استذكرت يوم سمعت به أول مرة... حدث ذلك أيام الوحدة السورية المصرية، منذ أقل من نصف قرن، حين كان بطلا" لمسرحية ساخرة .. أضحكنا كثيرا"حين ألقى بطرفة حول موقع مدينة ( نيويورك ) الجغرافي ( هذه المسرحية هي ذاتها التي أشارت إليها الأديبة فاديا غيبور في تقديمها للعدد الخاص بالمسرح من مجلة الموقف الأدبي الذي صدر شهر آب من العام الماضي ).
كان اسمه تلك الأيام ( مدحت صبري ) – (وصبري اسم والده) . قرأت له لاحقاً أول ماقرأت – قصيدة في مجلة (الفتوة ) التي كانت تصدر عن الحرس القومي مطلع ثورة آذار واستظهرت من القصيدة :
بودّي لو ألملم من ندى عينيك
بلسم جرحي الضاري
بوّدي لو أفك ضمادة صد
ريَ المخزون بالنار
كذلك لم تزل في ذاكرتي من بواكير ماقرأت له .. زاوية نشرها في الصفحة الأخيرة من صحيفة الثورة منذ نحو أربعين عاماً تناول فيها حكاية ( سد مأرب ) المعروفة وذكر أن السدّ انهار – لابفعل الفئران كما تقول الروايات التاريخية – وإنما بفعل سوء تنفيذ المتعهد لبنائه؛ وإنقاصه نسبة المواد الأساسية في عملية التشييد . عندما سارعت الجهات المعنية للقبض على المتعهد؛ وجدته متوفى منذ زمن . ثم ختم ممدوح عدوان زاويته بقوله
( نتمنى في هذه الأيام أن نلحق هذا النوع من المتعهدين قبل وفاتهم )..
أليس ثمة معنى جارح في أمنية ممدوح في وقتنا الراهن؟
في وقت لاحق ذهبت إليه في جريدة الثورة بدمشق ( المبنى القديم خلف القصر العدلي ) ليساعدني في تأمين كتب جامعية لقسم اللغة الإنكليزية الذي التحقت به عام 1967 ( كان ممدوح ثاني خريج لغة إنكليزية في منطقة مصياف بعد المترجم المرحوم عبد العزيز عروس ) . كانت الكتب آنذاك تأتي من بريطانيا وتباع في المكتبات ( مكتبة صائغ ومكتبة نوبل في دمشق ) .
ثم عملت في قسم الترجمة في الصحيفة ذاتها عام 1977 .. وكان مسؤولا" عن قسمها الثقافي .. حيث تعوّد الجميع عليه وهو يملأ مبنى الصحيفة حركة فياضة بالثقافة والطرائف والضحكة الرنانة المميزة .
هاهو ذا في صالة مركزه الثقافي التي اكتظت بالناس والحب والشجن .. كأن الحضور كانوا عواسج حزينة ، ( حبيبتي زنبقة صغيرة .. أما أنا فعوسج حزين ) هكذا غنت له يوما الفنانة التشكيلية هيفاء الحاج حسين .
ثم .. صعد ممدوح المنبر .. متألقاً بتواشج فرح عميق.. وحزن أعمق . وقرأ :
الأهل في مصياف
والروح توّاقة
ياليتني صفصاف
أو زهر درّاقة
لأبلّ حلقي الجاف
في ماء ورّاقة
تتجمع الأطياف
في الروح كالباقة
يبكي لنا الصفصاف
فتحنّ كالناقة
تابوتنا
في الروح كالباقة
يبكي لنا الصفصاف
فتحنّ كالناقة
تابوتنا مصياف
والقبر .. ورّاقة
بعدها كرجت دمعتان . بكى ممدوح للمرة الأخيرة .
حدثني صديق له كيف أنه سهر معه بحضور أصدقاء قبيل مدة قصيرة .. وكيف أن الجميع بكوا ( إلاه )..
أما يوم تكريمه فقد فرض الحب الذي أحيط به.. دمعتين صبغتا القاعة بأسى عميق .. عميق.
مئة ساعة مرّت، عاد بعدها ممدوح إلى مصياف .. وقيرون في زيارته الأخيرة ..
نهض ( عن مائدة مصياف
والقبر .. ورّاقة
بعدها كرجت دمعتان . بكى ممدوح للمرة الأخيرة .
حدثني صديق له كيف أنه سهر معه بحضور أصدقاء قبيل مدة قصيرة .. وكيف أن الجميع بكوا ( إلاه )..
أما يوم تكريمه فقد فرض الحب الذي أحيط به.. دمعتين صبغتا القاعة بأسى عميق .. عميق.
مئة ساعة مرّت، عاد بعدها ممدوح إلى مصياف .. وقيرون في زيارته الأخيرة ..
نهض ( عن مائدة العمر .. ولم يشبع ) .
سأختم بما قاله يوماً في رثاء بعض من أحبته :
(حين يأتي الموت ، الذي لابد أن يأتي ، يجب أن يرانا وقد استنزفنا حياتنا حتى الرمق الأخير . عشنا الحياة بكبرياء وكرامة .. لأننا لم نترك وراءنا مالم نعشه .. وما لم ننجزه .. وما لم نستمتع به . ثم نتقدم لمواجهة الموت متخمين بالحياة مثل جبابرة ينهضون عن المائدة التي التهموا عليها الفرائس التي قنصوها) .