الأصالة... في علاقات حسن الجوار..قديماً
*******************************************
في زيارة تحيّة ،وسلام، واطمئنان إلى أحد الأصدقاء، الذي كان منذ فترة طويلة يعمل خارج القطر،ومن خلال الحوار الجاد الذي شدّنا إلى واقع العلاقات الاجتماعية الحاليّة،وما أصابها من عطب وتخريب،جرى ذكر علاقة الفرد بجيرانه،وهي من صلب، وجوهر، ما أرشدنا، ووجهنا إليه الحديث الشريف،قال الرسول (صلعم):
{حديث شريف}
( مازال جبريل، يوصيني بالجار، حتى ظننت، أنّه سيورثه ) متفق عليه.
أيها الأصدقاء: تعالوا معي نستعرض واقع هذه العلاقات في حاضرهاوماضيها ونقارن بينهما،مشيرين إلى ماكانت عليه علاقات حسن الجوار قديماً،وما آلت إليه حديثاً..ولايخفى على الجميع،كيف كان النّاس قديما،ًيحافظون على قيم الفضيلة، والمحبّة والتسامح ،والكرم في تواددهم، وتحاببهم مع جيرانهم،وكيف أنّ رياح التطوّر والتغيير الذي شهدها العصر الحديث، قذفت بمعظم هذه الشمائل،ومحت ثقافة العولمة، جماليّة هذه العلاقات،وأصالتها،حتى بتنا ندفع ضريبة الحياة المعاصرة،مزيداً من العزلة،والتقوقع مع الذات،وبالتالي انحسار مدّ علاقات حسن الجوار التي كنّا نرعاها ونحرص عليها، في مجتمعنا..إلى أن أصبح الفرد في الواقع الرّاهن لايفكر إلا بنفسه،وبلغة مصالحه.
و في العصر الحديث، وبعد أن تجمدّت قيم،ومبادىء علاقات حسن الجوار،في قوالب عصرية جامدة، لاحياة فيها ولاروح، ولاعلاقة لهابالماضي،ولابأصالته وقيمه الخلقية والاجتماعية.ساهمت العلاقات الاجتماعيةالانعزاليّة الجديدة،لأسباب اقتصادية وأمنيّة أكثر، تتعلّق بخوف المواطن وحذره،مّمن يحيطون به، كما ذكر أحد الأصدقاء، هذه المخاوف ساهمت في هدم السّور الذي كان يصون ويحمي القيم الانسانيّة الفاضلة لعلاقات حسن الجوار قديماً،وممّا زاد في الطنبور نغمة،مساعدة الاختراعات الحديثة ،في فرض نوع من العزلة في البيوت،وعدم قيام الأسرة بتواصلها الإنساني، وتأدية واجباتها الاجتماعية من زيارة لجيرانها،وتفقّد أمورهم المعيشية والصحيّة،ومن هذه الاختراعات التّلفاز،فقد أفسد تسمّر الناس أمام شاشة الرّائي صورة هذه العلاقات الاجتماعية، في هذا العصر،وبعد أن أخذ النّاس يغلقون على أنفسهم بيوتهم منذ غياب الشمس،وينعزلون في منازلهم،وبعد أن غاب بريق هذه العلاقات تقريباً،بسبب ضيق الأوضاع الاقتصاديّة، والمعيشية، التي يمرّ بها المواطن العربي أولاَ،وميل النّاس إلى العزلة، وعدم الاختلاط بالاخرين حذراً وخوفاًلسباب أمنية،كما ذكرنا ثانياً،انطلاقاً من المثل الشعبي الذي يقول:
(منمشي الحيط الحيط،ومن قول ياربي السترة)..
حتى أخذ النّاس يؤمنون أنّ أيّ توسّع، وامتداد في العلاقات الاجتماعية، سيوقع صاحبه في مشكلات،لايقدّر أذاها وضررها.,وأخذ إيمان النّاس في هذه الأيام يترسّخ حول التفرّد، والعزلة، وعدم التّعرف على كثير من الأصدقاء،وعدم الانفتاح على الجيران..حتى أنّ الجار لايرى جاره إلاصدفة،فربّما يصادفه داخلاً، أوخارجاً في مدخل البناية، التي يسكنان بها سويّة،أو يراه صدفة في الشارع، فيلقي عليه التحيّة،ولايزوره إلا في مناسبات الفرح، والعزاء،و أحياناً قليلة في مناسبات الأعياد.وقد لايشاركه أفراحه، وتقتصر مشاركته له في مناسبات العزاء،كما يحدث هذه الأيام.
هذه هي الصّورة الموحشة، والمأساوية التي وصلت إليها علاقات حسن الجوار في أيامنا المعاصرة،أمّا قديماً وليس من بعيد كثير،وتحديداً من خمسينات وستينات القرن الماضي،كان الجار له حرمة..قال الشاعر ابن الخيّاط الدمشقي يفخر بقومه الذين يحافظون على جيرانهم في غيابهم،ويرعون حرمتهم:
اَلْمانِعِينَ غَداةَ الْخَوْفِ جارهُمُ == وَالْحافِظِينَ بِغَيْبٍ حُرْمَةَ الْجَارِ
وقال الشاعر ابراهيم بن هرمة،شاعر قرشي، ومن مخضرمي الدولتين العباسية والأموية:
لا أَخذُلُ الجارَ بَل أَحمي مَباءَتَهُ == وَلَيسَ جاري كَعُشٍّ بَينَ أَعوادِ
وديوان الشعر العربي مليء،بأبيات، ومقطوعات شعرية،فيها فخر للعربي بتمسّكه،بحسن معاملته للجار،وصيانة واجب الجيرة،والحرص على الأخلاقيات الفاضلة،في سلوكه وتعامله مع كلّ الجيران المحترمين،وكان المثل الشعبي يقول:
(جار السّو،أو (السّوء)....باديه بالرّحيل).
وكان الجوار المحترمون يسلكون سلوكاً كريماً وفاضلاً مع جيرانهم،لا، لأنّ حقّ الجار على الجار واجب ،بل لأنّ أخلاقهم وتربيتهم كانت لاتسمح لهم بغير هذا السلوك النّبيل..فالجار دائماً يتفقد جاره..ويتفقدّه ويزوره..ويعينه ويكون إلى جانبه في السّراء والضراء..فلايأكل من طعام إلا ويسكب له منه،ولايدخل فاكهة إلى بيته،إلا ويطعمه منها،ولايقطف ثماراً من حقله،أو من حديقة منزله،إلاويوزّع على جيرانه جميعاً،أوّل قطفة منها،وأذكر أنّ أمي(رحمهاالله)كانت تحمل على رأسها (طبقاً)من القش،أو(قشوية) وتملأهماعنباً من كرمنا الذي كان لايوجد في القرية غيره،وتأخذ الجيران درزاً،مقدّمة لهم أوّل قطفة منه،لتدبّ البركة فيه،ولكي لايحرم النّاس من فاكهة لايملكون مثلها،وكذلك يتكرّر سيل العطاء،عندما تنضج(المقتاية)أي كرم البطيخ الأحمر والأصفر، لاتستثني أحداً فقيراً كان أم غنيّاً،وعندما تحلب الأغنام،وتختّر حليبها،ليصبح لبناً،كانت زبادي اللبن،وطاسات (الشنينة)توزّع على كلّ بيوت القرية،الذين لايملكون أغناما أو أبقاراً في بيوتهم ولايوجد في بيوتهم حسب ما يقال(درّ)،أمّا خبز التنور الناضج الشهي،فكان كلّما مرّ أحد( رجلاً كان أم امرأة)،بصاحبة بيت تخبز،كان يدعى على الخبز السّاخن بالقول :(تفضّل... كل خبز ساخن وطري)فيحمّل منه (كماجة)او فطيرة،او رغيفاً مشروحاً،وفي مناسبات الفرح والعزاء على السواء،كانت كلّ بيوت القرية،تحمل ما(فيه النّصيب)(خبز ،سكر ،برغل،سمن،رزّ...الخ) إلى الأسرة التي لديها المناسبة،مشاركة منها إلى الجيران،وتعاطفاً مع أهل الفرح أو العزاء،وكانوا يقولون:
(الدنيا دين.. ووفا).
أمّا بالنسبة لسهرات أهل القرية، وتعاون الجيران في أعمالهم الزراعية المختلفة،فحدّث، ولا حرج..كان رجال القرية يجتمعون مساء وخاصة في ليالي الشتاء، حول منقل النذار، أو الموقد، في المضافة(المنزول)يسهرون،ويتسامرون،ويصغون إلى راوي القصص الشّعبية،الذي ربّما يأتي لهذه الغاية، من قرية ثانية بعيدة،أو يستمعون إلى مغنّ أو عازف رباب،أو (أرغول)( مزمار)،وكلّهم يؤدون وصلات من الغناء الشعبي التراثي،الذي يطرب لسماعه أهل القرية،ويشاركون فيه ترجيعاً،وإعادة،أويتحدثون في أمورهم الزراعية المختلفة،وكلّما اراد احد أن (يرجد) أي أن يجمع سنابل القمح من الحقل، لينقلها ويضعها على البيدر،أو أن (يدرسها)أو يحوّلها بالنورج، أو الحيلان إلى تبن وحبّ،ومن ثم يذريها،ليفصل التبن عن الحبّ،ومن ثم ينقل الحبوب، والتبن عن البيدر،إلى المكان المخصص لهما في منزل العائلة،في كلّ هذه الأعمال كان الجيران يتعاونون مع بعضهم البعض،ويساعدون المقصّر منهم، في إنجاز أعماله،وطبعاً كلّ ذلك دون أجر،أو مقابل..فقولوا لي: من في هذه الأيام ، يساعد أحداً من الجيران دون مقابل،لقد فسدت علاقات حسن الجوار، وانقطع خيط أسس التعاون والمحبّة بين أفراده،كما ينقطع خيط مسبحة،وتتناثر حبّاتها في كلً اتجاه..ايّها الأ صدقاء يقول الشاعر خليل مطران:
هَيْهَاتَ يُجْزِيءُ تَالِدٌ عَنْ طَارِفٍ == وَمَعَ الإِصَالَةِ فِيكَ نَفْسُ عِصَامِ
فالأصالة تقتضي منّا ان نعود إلى هذا الإرث التليد،وإلى هذا الكنز الثمين من مخزون حسن علاقات الجوار قديماً،في مجتمعنا،وأن نوُثقه وندعو للعمل بمنهجهه الأخلاقي،وأسلوبه التعاوني قدر الإمكان،ففي هذا إنقاذ وإحياءلبعض العلاقات الطيبة، التي مارسها أجدادنا وآباؤنا قديماً،فأرجو من كلّ الأصدقاء الذين يمرون بهذا الموضوع،أن يشاركوا ويذكرواعن قناعة وطيب خاطر،بعضاً من مظاهر تعاون، وتوادد الجيران قديماً،لعلّ صرختنا في هذا المجال تعيد الأوكسجين إلى رئتي علاقات حسن الجوارفي مجتمعنا،ونعود إلى صفاء ونقاء تلك العلاقات الصحيحة،التي لاغشّ فيها، ولاتدليس، ولانفاق،ولامصالح متبادلة ولا زيف، ولاتضليل..
أعزائي المشاركين على هذ المنتدى أنتظر ردودكم ،ومشاركاتكم على أحرّ من الجمر..
تحيّاتي وشكري.. إلى كلّ من يجد أنّ في العودة إلى مكارم علاقات حسن الجوار قديماً،عودة إلى الأصالة الاجتماعية والتاريخية اللتين نقدّسهما..ونريد توثيق بعضٍ من أوجهها، وعاداتها الحسنة، لعلّ بعضنا يعود إلى العمل بها.
أيّها الأصدقاء:من أجل أبنائنا، وأجيالنا القادمة،نزرع دوماً بذور الفضيلة.لعلّها تنبت خيراً،في تربة أصبحت قاحلة وموحشة،ومن نفوسنا التي أصبحت لاتحبّ الخيرلبعضها البعض،ندر نزول غيث من السّماء يرويها،فلنروها بما تبقى من فيض المحبّة المغروس في صدورنا،ولنسقيها بمآقينا،لعلّنا نحصد بعضاً من مكارم علاقات حسن الجوار، في مجتمعنا العصري الجاحد.
شكراً لكم ..ونحن بانتظار ردودكم، ومساهماتكم النّيرة.
الصديق: حيدر حيدر
سلمية في /27/5/2010
*******************************************
في زيارة تحيّة ،وسلام، واطمئنان إلى أحد الأصدقاء، الذي كان منذ فترة طويلة يعمل خارج القطر،ومن خلال الحوار الجاد الذي شدّنا إلى واقع العلاقات الاجتماعية الحاليّة،وما أصابها من عطب وتخريب،جرى ذكر علاقة الفرد بجيرانه،وهي من صلب، وجوهر، ما أرشدنا، ووجهنا إليه الحديث الشريف،قال الرسول (صلعم):
{حديث شريف}
( مازال جبريل، يوصيني بالجار، حتى ظننت، أنّه سيورثه ) متفق عليه.
أيها الأصدقاء: تعالوا معي نستعرض واقع هذه العلاقات في حاضرهاوماضيها ونقارن بينهما،مشيرين إلى ماكانت عليه علاقات حسن الجوار قديماً،وما آلت إليه حديثاً..ولايخفى على الجميع،كيف كان النّاس قديما،ًيحافظون على قيم الفضيلة، والمحبّة والتسامح ،والكرم في تواددهم، وتحاببهم مع جيرانهم،وكيف أنّ رياح التطوّر والتغيير الذي شهدها العصر الحديث، قذفت بمعظم هذه الشمائل،ومحت ثقافة العولمة، جماليّة هذه العلاقات،وأصالتها،حتى بتنا ندفع ضريبة الحياة المعاصرة،مزيداً من العزلة،والتقوقع مع الذات،وبالتالي انحسار مدّ علاقات حسن الجوار التي كنّا نرعاها ونحرص عليها، في مجتمعنا..إلى أن أصبح الفرد في الواقع الرّاهن لايفكر إلا بنفسه،وبلغة مصالحه.
و في العصر الحديث، وبعد أن تجمدّت قيم،ومبادىء علاقات حسن الجوار،في قوالب عصرية جامدة، لاحياة فيها ولاروح، ولاعلاقة لهابالماضي،ولابأصالته وقيمه الخلقية والاجتماعية.ساهمت العلاقات الاجتماعيةالانعزاليّة الجديدة،لأسباب اقتصادية وأمنيّة أكثر، تتعلّق بخوف المواطن وحذره،مّمن يحيطون به، كما ذكر أحد الأصدقاء، هذه المخاوف ساهمت في هدم السّور الذي كان يصون ويحمي القيم الانسانيّة الفاضلة لعلاقات حسن الجوار قديماً،وممّا زاد في الطنبور نغمة،مساعدة الاختراعات الحديثة ،في فرض نوع من العزلة في البيوت،وعدم قيام الأسرة بتواصلها الإنساني، وتأدية واجباتها الاجتماعية من زيارة لجيرانها،وتفقّد أمورهم المعيشية والصحيّة،ومن هذه الاختراعات التّلفاز،فقد أفسد تسمّر الناس أمام شاشة الرّائي صورة هذه العلاقات الاجتماعية، في هذا العصر،وبعد أن أخذ النّاس يغلقون على أنفسهم بيوتهم منذ غياب الشمس،وينعزلون في منازلهم،وبعد أن غاب بريق هذه العلاقات تقريباً،بسبب ضيق الأوضاع الاقتصاديّة، والمعيشية، التي يمرّ بها المواطن العربي أولاَ،وميل النّاس إلى العزلة، وعدم الاختلاط بالاخرين حذراً وخوفاًلسباب أمنية،كما ذكرنا ثانياً،انطلاقاً من المثل الشعبي الذي يقول:
(منمشي الحيط الحيط،ومن قول ياربي السترة)..
حتى أخذ النّاس يؤمنون أنّ أيّ توسّع، وامتداد في العلاقات الاجتماعية، سيوقع صاحبه في مشكلات،لايقدّر أذاها وضررها.,وأخذ إيمان النّاس في هذه الأيام يترسّخ حول التفرّد، والعزلة، وعدم التّعرف على كثير من الأصدقاء،وعدم الانفتاح على الجيران..حتى أنّ الجار لايرى جاره إلاصدفة،فربّما يصادفه داخلاً، أوخارجاً في مدخل البناية، التي يسكنان بها سويّة،أو يراه صدفة في الشارع، فيلقي عليه التحيّة،ولايزوره إلا في مناسبات الفرح، والعزاء،و أحياناً قليلة في مناسبات الأعياد.وقد لايشاركه أفراحه، وتقتصر مشاركته له في مناسبات العزاء،كما يحدث هذه الأيام.
هذه هي الصّورة الموحشة، والمأساوية التي وصلت إليها علاقات حسن الجوار في أيامنا المعاصرة،أمّا قديماً وليس من بعيد كثير،وتحديداً من خمسينات وستينات القرن الماضي،كان الجار له حرمة..قال الشاعر ابن الخيّاط الدمشقي يفخر بقومه الذين يحافظون على جيرانهم في غيابهم،ويرعون حرمتهم:
اَلْمانِعِينَ غَداةَ الْخَوْفِ جارهُمُ == وَالْحافِظِينَ بِغَيْبٍ حُرْمَةَ الْجَارِ
وقال الشاعر ابراهيم بن هرمة،شاعر قرشي، ومن مخضرمي الدولتين العباسية والأموية:
لا أَخذُلُ الجارَ بَل أَحمي مَباءَتَهُ == وَلَيسَ جاري كَعُشٍّ بَينَ أَعوادِ
وديوان الشعر العربي مليء،بأبيات، ومقطوعات شعرية،فيها فخر للعربي بتمسّكه،بحسن معاملته للجار،وصيانة واجب الجيرة،والحرص على الأخلاقيات الفاضلة،في سلوكه وتعامله مع كلّ الجيران المحترمين،وكان المثل الشعبي يقول:
(جار السّو،أو (السّوء)....باديه بالرّحيل).
وكان الجوار المحترمون يسلكون سلوكاً كريماً وفاضلاً مع جيرانهم،لا، لأنّ حقّ الجار على الجار واجب ،بل لأنّ أخلاقهم وتربيتهم كانت لاتسمح لهم بغير هذا السلوك النّبيل..فالجار دائماً يتفقد جاره..ويتفقدّه ويزوره..ويعينه ويكون إلى جانبه في السّراء والضراء..فلايأكل من طعام إلا ويسكب له منه،ولايدخل فاكهة إلى بيته،إلا ويطعمه منها،ولايقطف ثماراً من حقله،أو من حديقة منزله،إلاويوزّع على جيرانه جميعاً،أوّل قطفة منها،وأذكر أنّ أمي(رحمهاالله)كانت تحمل على رأسها (طبقاً)من القش،أو(قشوية) وتملأهماعنباً من كرمنا الذي كان لايوجد في القرية غيره،وتأخذ الجيران درزاً،مقدّمة لهم أوّل قطفة منه،لتدبّ البركة فيه،ولكي لايحرم النّاس من فاكهة لايملكون مثلها،وكذلك يتكرّر سيل العطاء،عندما تنضج(المقتاية)أي كرم البطيخ الأحمر والأصفر، لاتستثني أحداً فقيراً كان أم غنيّاً،وعندما تحلب الأغنام،وتختّر حليبها،ليصبح لبناً،كانت زبادي اللبن،وطاسات (الشنينة)توزّع على كلّ بيوت القرية،الذين لايملكون أغناما أو أبقاراً في بيوتهم ولايوجد في بيوتهم حسب ما يقال(درّ)،أمّا خبز التنور الناضج الشهي،فكان كلّما مرّ أحد( رجلاً كان أم امرأة)،بصاحبة بيت تخبز،كان يدعى على الخبز السّاخن بالقول :(تفضّل... كل خبز ساخن وطري)فيحمّل منه (كماجة)او فطيرة،او رغيفاً مشروحاً،وفي مناسبات الفرح والعزاء على السواء،كانت كلّ بيوت القرية،تحمل ما(فيه النّصيب)(خبز ،سكر ،برغل،سمن،رزّ...الخ) إلى الأسرة التي لديها المناسبة،مشاركة منها إلى الجيران،وتعاطفاً مع أهل الفرح أو العزاء،وكانوا يقولون:
(الدنيا دين.. ووفا).
أمّا بالنسبة لسهرات أهل القرية، وتعاون الجيران في أعمالهم الزراعية المختلفة،فحدّث، ولا حرج..كان رجال القرية يجتمعون مساء وخاصة في ليالي الشتاء، حول منقل النذار، أو الموقد، في المضافة(المنزول)يسهرون،ويتسامرون،ويصغون إلى راوي القصص الشّعبية،الذي ربّما يأتي لهذه الغاية، من قرية ثانية بعيدة،أو يستمعون إلى مغنّ أو عازف رباب،أو (أرغول)( مزمار)،وكلّهم يؤدون وصلات من الغناء الشعبي التراثي،الذي يطرب لسماعه أهل القرية،ويشاركون فيه ترجيعاً،وإعادة،أويتحدثون في أمورهم الزراعية المختلفة،وكلّما اراد احد أن (يرجد) أي أن يجمع سنابل القمح من الحقل، لينقلها ويضعها على البيدر،أو أن (يدرسها)أو يحوّلها بالنورج، أو الحيلان إلى تبن وحبّ،ومن ثم يذريها،ليفصل التبن عن الحبّ،ومن ثم ينقل الحبوب، والتبن عن البيدر،إلى المكان المخصص لهما في منزل العائلة،في كلّ هذه الأعمال كان الجيران يتعاونون مع بعضهم البعض،ويساعدون المقصّر منهم، في إنجاز أعماله،وطبعاً كلّ ذلك دون أجر،أو مقابل..فقولوا لي: من في هذه الأيام ، يساعد أحداً من الجيران دون مقابل،لقد فسدت علاقات حسن الجوار، وانقطع خيط أسس التعاون والمحبّة بين أفراده،كما ينقطع خيط مسبحة،وتتناثر حبّاتها في كلً اتجاه..ايّها الأ صدقاء يقول الشاعر خليل مطران:
هَيْهَاتَ يُجْزِيءُ تَالِدٌ عَنْ طَارِفٍ == وَمَعَ الإِصَالَةِ فِيكَ نَفْسُ عِصَامِ
فالأصالة تقتضي منّا ان نعود إلى هذا الإرث التليد،وإلى هذا الكنز الثمين من مخزون حسن علاقات الجوار قديماً،في مجتمعنا،وأن نوُثقه وندعو للعمل بمنهجهه الأخلاقي،وأسلوبه التعاوني قدر الإمكان،ففي هذا إنقاذ وإحياءلبعض العلاقات الطيبة، التي مارسها أجدادنا وآباؤنا قديماً،فأرجو من كلّ الأصدقاء الذين يمرون بهذا الموضوع،أن يشاركوا ويذكرواعن قناعة وطيب خاطر،بعضاً من مظاهر تعاون، وتوادد الجيران قديماً،لعلّ صرختنا في هذا المجال تعيد الأوكسجين إلى رئتي علاقات حسن الجوارفي مجتمعنا،ونعود إلى صفاء ونقاء تلك العلاقات الصحيحة،التي لاغشّ فيها، ولاتدليس، ولانفاق،ولامصالح متبادلة ولا زيف، ولاتضليل..
أعزائي المشاركين على هذ المنتدى أنتظر ردودكم ،ومشاركاتكم على أحرّ من الجمر..
تحيّاتي وشكري.. إلى كلّ من يجد أنّ في العودة إلى مكارم علاقات حسن الجوار قديماً،عودة إلى الأصالة الاجتماعية والتاريخية اللتين نقدّسهما..ونريد توثيق بعضٍ من أوجهها، وعاداتها الحسنة، لعلّ بعضنا يعود إلى العمل بها.
أيّها الأصدقاء:من أجل أبنائنا، وأجيالنا القادمة،نزرع دوماً بذور الفضيلة.لعلّها تنبت خيراً،في تربة أصبحت قاحلة وموحشة،ومن نفوسنا التي أصبحت لاتحبّ الخيرلبعضها البعض،ندر نزول غيث من السّماء يرويها،فلنروها بما تبقى من فيض المحبّة المغروس في صدورنا،ولنسقيها بمآقينا،لعلّنا نحصد بعضاً من مكارم علاقات حسن الجوار، في مجتمعنا العصري الجاحد.
شكراً لكم ..ونحن بانتظار ردودكم، ومساهماتكم النّيرة.
الصديق: حيدر حيدر
سلمية في /27/5/2010