من وحي المسير إلى مصياف
أولاً:إطلالة على أوابد وذكريات مصياف...
في يوم الجمعة/18/9/2009
مصياف تلك المدينة التي كتب على شاخصة في مدخلها الشرقي(مصياف عناق السهل والجبل).مصياف التي يتكئ صدرها الخافق بالحب والعظمة من الغرب على سلسلة من الجبال أهمها جبل(المشهد على) الشاهق،والذي يحيط بخاصرتها الغربية،كما يحيط الحبيب جسد من يحبّ ويحميه من كلّ مكروه,وتبسط ذراعيها وترحب بكلّ قادم من الشرق ، وبعينيها اللتين اكتحلتا بسحر الفتاة الجبلية، ترنو إلى سهل الغاب المنبسط أمامها،تحدثه حديث العاشق الوله عن أيامها الغابرة،عن أوابدها الأثرية وأهمها قلعتها الشامخة شموخ الدهر في وجه الغزاة
لتحمي كبريائها وعزتها من كلّ آثم ومعتد.
هاهو الأمير سنان رشاد الدين يشهر سيفه ويقف على بوابتك الجنوبية يصدّ جحافل الغزاة،هكذا حدثني التاريخ وأنا أنظر من نافذة الحافلة إلى أبراجك المنتصبة بكلّ قوة وثبات.وقال لي التاريخ أيضاً:هنا الحضارة غرست أوتادها،كما هذه الجبال الرواسي،وهنا موطن الإباء والعزة،فمتع ناظريك بهذا الكساء السندسي الأخضر الذي ترتديه قمم جبالها الشماء،ويحيط بقلعتها كما يحيط السوار بالمعصم،وعند قدميها المغروستين في صخور صماء،تناثرت البيوت الحجرية التي ترمز إلى العراقة والأصالة في الطراز المعماري،وإلى صلابة الرجال الذين شادوا وقطنوا في هذه البيوت منذ القدم وحتى الآن.
ومع الخيوط الأولى لنور الصباح،وقد أخذت الشمس ترسل أشعتها الذهبية على أسوار القلعة وأبراجها، فتكسوها بريقاً وتألقاً. استيقظت أمّ القلاع من رقادها ورحبت بنا قائلة:
أصدقاء سلمية قادمون،أهل الفكر والثقافة،أهل الحميّة والنخوة العربيّة،أهل الكرم والعزة والإباء.أهلاً بكم في مصياف
ابتسمت لنا ورقّ وعذب حديثها،وفاض قلبها بالحبّ والحنان،فلم أدر ماذا أجيب على هذا الحديث المفعم بالصدق والشفافية ولم أجد جواباً ملائماً أفضل من أبيات للشاعر (مزيد الحلي) وهو شاعر من أهل الحلة ،ضاقت به السبل فتوجه إلى مصياف وعاش فيها، حيث الأمن والأمان قائلاً:
وسرنا إلى مصياف سعياً كما سعى == إلى البيت قوم من قريشٍ وجرهم
وقد نشر الرحمن أطمار سندسٍ == على كل حزمٍ بالرياض مُعمم
إلى أن حططتُ اليوم رحلي مسلماً == إليك وها أنت المحكم فاحكم
وحكمت مصياف ورحبت به كما رحبت بنا،ففرح قلبه،فانشدها وقلبه يلهج بالشكر والثناء قائلاً:
فرحت وقلبي للتذكر واعيا == إلى من دعا للحق يا خير داعيا
فلا أرتجي إلاَّه كوني صاحيا == وسرنا إلى مصياف سعياً وساعيا
إلى البيت قوم من قريشٍ وجرهم
فعاينتُ وجهاً باسماً غير معبس == كصبح تبدَّى تحت أذيال حندس
وأرض كساها اللّه أنوار مؤنس == وقد نشر الرحمان أطمار سندس
على كل جرمٍ بالرياض معمَّم
في مصياف لي أقرباء وأصدقاء كثر،تربطني بهم مودة ومحبّة واحترام متبادل،
بعضهم يوافقني الثبات في نهجي في الحياة،وبعضهم أختلف معه،ولكن يجمعنا إطار العمل في المجتمع الأهلي،ألا وهو الاعتراف بالآخر واحترام رأيه وإن كان من مدرسة فكرية واجتماعية أخرى.وهذا برأيي ما يوطّد دعائم العمل الأهلي ويقوي من منطلقاته وأهدافه،سعيا ًلبلوغها وقطف ثمار التعاون والعمل التطوعي
الذي أوّل ما يبدأ بنكران الذات ،والبعد عن الأثرة والأنانية.ونشر الأمن والأمان للجميع.تحت سقف المحبة التي نغرس ثقافتها وقيمها في جمعيتنا ،جمعيّة أصدقاء سلمية،وأتمنى من كلّ الأصدقاء أن يتحلوا بهذه الصفات الكريمة والنبيلة.
ولي في مصياف ذكريات قديمة وجميلة،سوف اعرض على مسامعكم واحدة منها لأنني لاأفتأ أكرّرهذه الذكرى،وأعيدها على مسامع أصدقائي في مصياف ،إذا ما
جمعني بهم لقاء، أو صدفة.
عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية،أي في فترة الخمسينات من القرن الماضي
سافرت إلى مصياف مع أحد الأصدقاء،في العطلة الصيفية،كان الوقت خريفاّ،
تماماً كهذه الأيام من السنة، صديقي أمضى وقته في ضيافة أخيه الذي كان موظفاً معيناً في مصياف.
وأنا أمضيت وقتي في ضيافة أقربائي،وكان بيتهم وما يزال بجوار القلعة من الجهة الشمالية.وهذا ما سهلّ عليّ زيارة القلعة والتعرف عليها من الداخل،
وربما أعود إلى وصفها في وقت آخر.تذكيراً بما كانت عليه من إهمال واندثار،
وما آلت إليه أوابدها الآن بعد أعمال الترميم التي أنجزتها مؤسسة الآغا خان مشكورة،علماً بأنه لم تسمح لي الظروف بزيارتها بعد ترميمها.
وهنا كم أتمنى ويتمنى أهالي مدينتي سلمية،في أن تقوم مؤسسة الآغان بترميم
أوابد قلعة شميميس نظراً لعراقتها وتاريخها الأصيل.
المهم ،في ذلك الوقت عندما كنت وصديقي في مصياف،تواعدنا لنلعب كرة طاولة
في النادي الرياضي الذي يقع تقريباً في وسط (البلدة)واعذروني فإنّ رحلة العمر
أخذت في طريقها بعضاً من الذاكرة،لهذا السبب لم أعد أتذكر اسم النادي الذي جمعني وصديقي في اليوم الثاني لزيارتنا،وهناك التقينا بعدد من شباب مصياف
الذين لم نكن نعرفهم،وسرعان ما تعارفنا وتحاببنا وتواعدنا على أن نلتقي
في اليوم الثاني،لكي يأخذونا في مشوار إلى البيضا،وكانت آنذاك قرية صغيرة
ولكنها قرية جميلة،وتمتاز بأنّ الشباب والصبايا فيها يخرجون كلّ مساء في
نزهة ،كانوا يطلقون عليها (المشوار)ولاأدري إن كانت هذه العادة الجميلة باقية
إلى اليوم،أم أنّ متاعب الحياة العصرية وهمومها، جعلتها من ذكريات الماضي السعيد،ذكريات الصبا والشباب.
وجاء اليوم الثاني،وحضرت وصديقي إلى النادي الرياضي في الموعد المحدّد،وانتظرنا..
وطال انتظارنا،ولكن لمّا يحضر أحد من الأصدقاء(المصايتة)والذين تعرفنا إليهم أمس،ولا ندري حتى اليوم ،لماذا نكثوا بوعودهم ولم يفوا!!،وكانت هذه الحادثة مجال تندّر ظريف، واستفسار ينمّ عن غرابة ودهشة!!،مع كلّ قريب أو صديق من مصياف ألتقيه.أو أتعرف عليه بعدها.
بعد أن انقطع خيط أملنا في حضور الأصدقاء اقترح صديقي أن نذهب في رحلة خارج مصياف،سيراً على الأقدام ،وكما ذكرت،كنا يومها في سنّ الشباب لايهمنا المسير والصعود إلى ذروة جبل أشم،ولانتوجس منه خيفة كشباب اليوم،بعدها خرجنا من النادي وتوجهنا شمالاً،وعبرنا مايسمى يومها الباب الشمالي لمصياف
وأتذكر آنذاك لم يكن هناك من مبانٍ،أو منازل لسكان مصياف خارج سور مصياف،أو بشكل أدق خارج بابها الشمالي، على عكس ما رأيته اليوم من وجود
حارة كبيرة خارج البوابة الشمالية لسور مصياف القديم،والذي لاأدري إن كان
باقياً من آثاره شيء،كسور سلمية الذي لم يبق منه إلا الجدار الأثري مقابل مبن دار الحكومة.وهكذا دائماً،تدفع أوابدنا الأثرية،نتيجة التوسع السكني لمدننا وبلداننا،ونتيجة الإهمال المقصود أو الغير مقصود،ضريبة الاندثار والانهدام وربما أحياناً الزوال عن الخريطة الأثرية لوطننا،بينما البعثات الأثرية في الغرب تهتم في المحافظة على هذه الأوابد أكثر منّا،آخذة بعين الاعتبار قيمتها التاريخية والحضارية،أرجو مستقبلاً أن يحدث عكس هذا التوجه،من الشعب والمسئولين.
وأتذكر أيضاً أنّ الشاعر الشعبي(محمد الزرزوري)الملقب (أبو حسن). وهو من قرية الكافات الواقعة غرب سلمية.وكان آنذاك شاعراً ومطرباً مشهوراً في منطقتي سلمية ومصياف مع المطرب (صادق حديد).وهو من قرية بري الشرقي الواقعة شرق سلمية.(رحمهما الله).
كان الزرزوري قد تزوج من قريبة لي من مصياف،وأقام في دمشق وتعيّن يومها في فرقة الفنون الشعبية في الإذاعة السورية،ولم يكن التلفزيون قد عرف بعد.
المهم،أنّ بلدية مصياف وتكريماً لصهرها ومطربها الزرزوري،منحته قطعة أرض خارج الباب الشمالي،وقد عاينت معه هذه القطعة بنفسي على أرض الواقع،
ليقيم عليها منزلاً يسكن فيه عندما يأتي إليها في المناسبات.
و أتذكر يومها أننا كنّا نمزح عليه ونقول:(هل كلّ من صاهر المصايتة،تعطيه البلدية،قطعة أرض ليبني عليها بيتاً،إذاً يا أبا حسن سجل لنا على الدور)ويضحك
أبو حسن،ونضحك جميعاً.وتمضي السنون،وتطوي رحلة العمر صفحة أبي حسن،كما سوف تطوى(بعد طول عمر)صفحتنا،ويغادرنا أبو حسن إلى دار الآخرة،ولم يأخذ معه لامالاً ولاداراً،هو الموت الذي ساوى فيه الخالق الناس جميعاً،غنيهم وفقيرهم،وكما قال شاعر الزهد وفيلسوف المعرة،الشاعر(أبو العلاء المعري)ملخصاً هذه الفلسفة ببيت من الشعر:
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته == يوماً على آلة حدباء محمول
ومن يومها،لم أعد أعرف ما حلّ،بالبيت الذي شيدّه أبو حسن في تلك القطعة التي منحته إياها بلدية مصياف، وحتى أنني لم أعد أعرف ماحلّ بأسرة الزرزوري،لأنّ علاقاتي بأقربائي انقطعت تماماً،لأسباب لامجال لذكرها اليوم،
وربما يأتي ظرف آخر وأسردها على مسامعكم،فقط لتحكموا من قطع حبل صلة الرحم والقربى،وأنهى من جانبه أواصر المودة والوفاء بيننا،مع أنني كنت وما زلت أتمنى لتلك المودة لو دامت،ولأنّ ظلم ذوي القربى أشدّ تأثيراً ووقعاً في النفس وعليها.كما يذكر العلامة المرزوقي في شرح ديوان الحماسة للشاعر أبي تمام(عباسي):
التوجع من الحال، فيقول متمنياً: بودي إن يكونوا لو صلةٍ وقرابةٍ غير وصلتهم وقرابتهم،حتى لا يبلغ الجفاء من جهتهم مبالغة في نفوسنا، لأن ظلم ذوي القربى أشد تأثيراً.والشر إذا ورد على الإنسان من مظنة الخير كان أنفذ تحزيزا(تقطيعاً).
فما تدعي من خير عدوة داحسٍ فلم تنج منها يا ابن وبرة سالما
يذم ما أحمدوه من سبق داحسٍ وتبريزه، ويسوئ رأيهم في تبجحهم، ويعرفهم قبح عاقبة مااختاروه، وسوء مغبة ما شرعوا فيه).
بعدها،توجهت وصديق إلى طريق (مصياف ـ القدموس) وقطعنا فيه مسافة،ثم انعطفنا في طريق(شريك) جبلي باتجاه الغرب،وسرنا بين كروم العنب والتين،
وكانت آنذاك ثمرها ناضجاً،كما هو في هذه الأيام الخريفية الجميلة،كما ذكرت سابقاً.
وواصلنا صعودنا غرباً في شعاب ذلك الجبل،إلى أن وصلنا إلى مكان في أحد الكروم،تظلله شجرة تين كبيرة،ويتفجر بجانبها ينبوع ماء بارد وعذب كماء ا
الكوثر.وما أكثر الينابيع التي تنحدر من جبال مصياف في ذلك الوقت.وكذلك في سهول سلمية وواحات ريفها وبواديها.وعلى سبيل الذكر لاالإحصاء،كان يجري في سهول سلمية أكثر من ثلاثمائة عين، واليوم ندعو الله عزّ وجلّ أن يعيد لتلك الأيام دورتها ونماءها ،ليعمّ الخير ربوع سلمية ومصياف،بل الوطن بأكمله.
جلست وصديقي في ظلّ شجرة التين الكبيرة،واغتسلنا وشربنا من ماء النبع البارد،ونظر صديقي إلى شجرة التين المحملة بالثمار فوقنا،وقال:
ما أطيب لو نجد أحداً في هذا الكرم يبيعنا قليلاً من التين، لنضعه في الماء البارد،لنأكله ونستلذ بطعمه الشهي.
وكان على مقربة من مكان جلوسنا،شيخ مسنّ يعمل في جمع ثمار التين في ذلك من الصباح.وعندما رآنا نجلس في الحقل ولم نكن نعلم إن كان حقله أوحقل غيره،لأنّ حواكير الأرض في مصياف،عادة ما تكون صغيرة ومتداخلة.كما أعلم
وتعلمون.توجه الشيخ إلينا،وسلّم وجلس،فسأله صديقي:
عمّ هل هذا الكرم لك،فأجاب الشيخ:نعم.فأضاف صديقي:وهل تبيعنا قليلا من التين.
ضحك الشيخ من سؤاله،وقال:يبدو أنكم غريبون،أكيد من (بليد الشرق).
قال صديقي:نعم نحن من سلمية.وماحدث بعد ذلك هو أننا تعارفنا،وتبين لي أنّه يعرف جميع أقربائي من آل (مشرقي) في مصياف.وعرفنا الشيخ الوقور الذي احترمناه وأحبنّا،وحدثناه بقصتنا عن أصدقائنا المصايتة الذين تواعدنا معهم وأخلفوا الموعد.فاستنكر منهم هذا الموقف،أشد استنكار ودعانا إلى زيارته في بيته،ليمحو سوء ما فعلوه،وما تركه موقفهم من أثر سيء في نفوسنا.
وبد أن اطمأنت النفوس،وهدأت السريرة،قال الشيخ لصديقي مبتسماً:
ياعمي،لا أحد عندنا وهو في الكرم،يشتري تيناً ليأكل،
عندنا الغريب والقريب،والضيف وعابر السبيل إذا ما مرّ في أيّ كرم من كروم مصياف،يقطف ويأكل ما تشتهي نفسه،دون إذن من صاحبه.المهم أن لايحمل معه شيئاً بقصد الهدية أو البيع.
وأنتما كان من حقكما أن تقطفا ما تشتهيان من هذه الشجرة،وتأكلان ما لذ وطاب
لكما من ثمارها،دون أن تحملا معكما شيئاً.
ثم نهض الشيخ وقطف كمية كبيرة من ثمار التين،ووضعها في الماء البارد،
ثم أكلت وصديقي.وشكرنا الشيخ العجوز والذي لم أعد أتذكر اسمه،أو من أيّ عائلة من مصياف.لقد حديث هذا الشيخ ،العذب أشهى من ثمار التين التي أكلناها مبتردة في كرمه ،وحديثه هذا،وإكرامه لنا،أنسانا إخلاف أصدقاء النادي.
وظلّ هذه الذكرى محفورة في ذاكرتي،وأرددها على مسامع كلّ صديق أو قريب ألتقيه من مصياف.وتمرّ الأيام وتبقى ذكرى الأيام الجميلة والسعيدة التي قضيناها مع أصدقائنا في سنّ الشباب،أدام الله شبابكم وأبقاكم من الأوفياء والمخلصين لأصدقائكم.
فبعض أصدقاء مسير اليوم،أتعبهم وأرهقهم المسير الشاق الذي نفذناه من بلدة
( قيرون )إلى بلدة(حيالين) مروراً بمنطقة دير ماما الجبلية،والواقعتين في ريف مصياف الجبلي،فما كان من بعضهم بعد أن أعياه مواصلة رياضة المشي والسير في هذه الدروب الأفعوانية، والمسالك الجبلية الصاعدة نحو قمة الجبل الأخضر،
إلا أن صعد صهوة أوّل وسيلة مواصلات عابرة،مختصراً مسيره،ومستريحاً من عنائه،كان منظرهم وهم يمرون في الشاحنات أشبه بعمال التراحيل،كان المشهد
مضحكاً ومؤثراً،فيا للعجب والدهشة من صلابة ومراس شباب اليوم!!.
هذا و لم ينسهم صعوبة الطريق ،جمال الريف والمناظر الخلابة التي تمتد على امتداد رؤانا ونظرنا صعوبة الطريق،آكام وتلال ووديان مكسوة برداء من الأشجار الحراجية الكبيرة والمعمرة،ومنها أشجار السنديان و....والحور والجوز..حقاً إنها غابات طبيعية عذراء تنقلنا تحت أغصانها الوارفة، وتسقط علينا أشعة الشمس من خلال فروع الأغصان وكأنها دنانير ذهبية ،فنتذكّر قول شيخ الشعراء(أبي الطيب المتنبي) يصف هذا المشهد الخلاب:
فسرتُ وقد حجبْن الشَّمسَ عنِّي == وجِئنَ من الضياءِ بما كَفاني
وألقى الشرقُ منها في ثيابي == دنا نيرا تفرُّ من البَنانِ
هذا ولم ينسهم مشقة الطريق إطلالة الجبل أو سلسلة الجبال الممتدة إلى ما لانهاية،والتي تستريح في ظلالها بيارات وبساتين ومنازل دير ماما الجميلة والمسيجة بأشجار الزيتون والتين والصبار والبطم ودوالي العنب التي تدلّت عناقيدها منها حمراء شهيّة، مثلها مثل ثمار التين الناضجة والتي كانت تتدلى من أغصان شجيراتها المزروعة في كل مكان على جانبي طريق المسير،وأمام كلّ حاكورة من حوا كير القرى التي تجاوزناها في مسيرنا العسير اليوم، وكم كان كرم وعطاء هذه الكروم والأشجار سخياً،ككرم الأهالي في قيرون ودير ماما الذين كانوا عندما يروننا نلهث في مسيرنا،ويرون العرق يتصبب من جباهنا،وهذا شيىء طبيعي في مثل هذا اليوم الخريفي الحار،إنها ضريبة حمّى الرياضة الجبلية الشاقة،والمسير الشاق والطويل الذي كنّا ننفذه.كان الأهالي(مشكورين) وعلى جانبي الطريق يمدون خراطيم المياه العذبة لكي نبترد منها ونشرب ونملأ زجاجاتنا البلاستيكية والتي أفرغناها في صعود طريق المسير الجبلي والشاق والمضني، وكان مصدر هذه المياه، من عيون وأنابيع طبيعية تتفجر من كتف الجبل الذي تتكىء عليها البيوت الريفية الجميلة والممتدة كشريط أخضر جميل ومتوزعة بارتفاعات متباينة على سفوح الجبل الأخضر الشاهق.
للموضوع تتمة...أرجو المتابعة مستقبلاً .وشكرا
[b]الكاتب الصديق:حيدر حيدر
سلمية في /20/9/2009[/b]
أولاً:إطلالة على أوابد وذكريات مصياف...
في يوم الجمعة/18/9/2009
مصياف تلك المدينة التي كتب على شاخصة في مدخلها الشرقي(مصياف عناق السهل والجبل).مصياف التي يتكئ صدرها الخافق بالحب والعظمة من الغرب على سلسلة من الجبال أهمها جبل(المشهد على) الشاهق،والذي يحيط بخاصرتها الغربية،كما يحيط الحبيب جسد من يحبّ ويحميه من كلّ مكروه,وتبسط ذراعيها وترحب بكلّ قادم من الشرق ، وبعينيها اللتين اكتحلتا بسحر الفتاة الجبلية، ترنو إلى سهل الغاب المنبسط أمامها،تحدثه حديث العاشق الوله عن أيامها الغابرة،عن أوابدها الأثرية وأهمها قلعتها الشامخة شموخ الدهر في وجه الغزاة
لتحمي كبريائها وعزتها من كلّ آثم ومعتد.
هاهو الأمير سنان رشاد الدين يشهر سيفه ويقف على بوابتك الجنوبية يصدّ جحافل الغزاة،هكذا حدثني التاريخ وأنا أنظر من نافذة الحافلة إلى أبراجك المنتصبة بكلّ قوة وثبات.وقال لي التاريخ أيضاً:هنا الحضارة غرست أوتادها،كما هذه الجبال الرواسي،وهنا موطن الإباء والعزة،فمتع ناظريك بهذا الكساء السندسي الأخضر الذي ترتديه قمم جبالها الشماء،ويحيط بقلعتها كما يحيط السوار بالمعصم،وعند قدميها المغروستين في صخور صماء،تناثرت البيوت الحجرية التي ترمز إلى العراقة والأصالة في الطراز المعماري،وإلى صلابة الرجال الذين شادوا وقطنوا في هذه البيوت منذ القدم وحتى الآن.
ومع الخيوط الأولى لنور الصباح،وقد أخذت الشمس ترسل أشعتها الذهبية على أسوار القلعة وأبراجها، فتكسوها بريقاً وتألقاً. استيقظت أمّ القلاع من رقادها ورحبت بنا قائلة:
أصدقاء سلمية قادمون،أهل الفكر والثقافة،أهل الحميّة والنخوة العربيّة،أهل الكرم والعزة والإباء.أهلاً بكم في مصياف
ابتسمت لنا ورقّ وعذب حديثها،وفاض قلبها بالحبّ والحنان،فلم أدر ماذا أجيب على هذا الحديث المفعم بالصدق والشفافية ولم أجد جواباً ملائماً أفضل من أبيات للشاعر (مزيد الحلي) وهو شاعر من أهل الحلة ،ضاقت به السبل فتوجه إلى مصياف وعاش فيها، حيث الأمن والأمان قائلاً:
وسرنا إلى مصياف سعياً كما سعى == إلى البيت قوم من قريشٍ وجرهم
وقد نشر الرحمن أطمار سندسٍ == على كل حزمٍ بالرياض مُعمم
إلى أن حططتُ اليوم رحلي مسلماً == إليك وها أنت المحكم فاحكم
وحكمت مصياف ورحبت به كما رحبت بنا،ففرح قلبه،فانشدها وقلبه يلهج بالشكر والثناء قائلاً:
فرحت وقلبي للتذكر واعيا == إلى من دعا للحق يا خير داعيا
فلا أرتجي إلاَّه كوني صاحيا == وسرنا إلى مصياف سعياً وساعيا
إلى البيت قوم من قريشٍ وجرهم
فعاينتُ وجهاً باسماً غير معبس == كصبح تبدَّى تحت أذيال حندس
وأرض كساها اللّه أنوار مؤنس == وقد نشر الرحمان أطمار سندس
على كل جرمٍ بالرياض معمَّم
في مصياف لي أقرباء وأصدقاء كثر،تربطني بهم مودة ومحبّة واحترام متبادل،
بعضهم يوافقني الثبات في نهجي في الحياة،وبعضهم أختلف معه،ولكن يجمعنا إطار العمل في المجتمع الأهلي،ألا وهو الاعتراف بالآخر واحترام رأيه وإن كان من مدرسة فكرية واجتماعية أخرى.وهذا برأيي ما يوطّد دعائم العمل الأهلي ويقوي من منطلقاته وأهدافه،سعيا ًلبلوغها وقطف ثمار التعاون والعمل التطوعي
الذي أوّل ما يبدأ بنكران الذات ،والبعد عن الأثرة والأنانية.ونشر الأمن والأمان للجميع.تحت سقف المحبة التي نغرس ثقافتها وقيمها في جمعيتنا ،جمعيّة أصدقاء سلمية،وأتمنى من كلّ الأصدقاء أن يتحلوا بهذه الصفات الكريمة والنبيلة.
ولي في مصياف ذكريات قديمة وجميلة،سوف اعرض على مسامعكم واحدة منها لأنني لاأفتأ أكرّرهذه الذكرى،وأعيدها على مسامع أصدقائي في مصياف ،إذا ما
جمعني بهم لقاء، أو صدفة.
عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية،أي في فترة الخمسينات من القرن الماضي
سافرت إلى مصياف مع أحد الأصدقاء،في العطلة الصيفية،كان الوقت خريفاّ،
تماماً كهذه الأيام من السنة، صديقي أمضى وقته في ضيافة أخيه الذي كان موظفاً معيناً في مصياف.
وأنا أمضيت وقتي في ضيافة أقربائي،وكان بيتهم وما يزال بجوار القلعة من الجهة الشمالية.وهذا ما سهلّ عليّ زيارة القلعة والتعرف عليها من الداخل،
وربما أعود إلى وصفها في وقت آخر.تذكيراً بما كانت عليه من إهمال واندثار،
وما آلت إليه أوابدها الآن بعد أعمال الترميم التي أنجزتها مؤسسة الآغا خان مشكورة،علماً بأنه لم تسمح لي الظروف بزيارتها بعد ترميمها.
وهنا كم أتمنى ويتمنى أهالي مدينتي سلمية،في أن تقوم مؤسسة الآغان بترميم
أوابد قلعة شميميس نظراً لعراقتها وتاريخها الأصيل.
المهم ،في ذلك الوقت عندما كنت وصديقي في مصياف،تواعدنا لنلعب كرة طاولة
في النادي الرياضي الذي يقع تقريباً في وسط (البلدة)واعذروني فإنّ رحلة العمر
أخذت في طريقها بعضاً من الذاكرة،لهذا السبب لم أعد أتذكر اسم النادي الذي جمعني وصديقي في اليوم الثاني لزيارتنا،وهناك التقينا بعدد من شباب مصياف
الذين لم نكن نعرفهم،وسرعان ما تعارفنا وتحاببنا وتواعدنا على أن نلتقي
في اليوم الثاني،لكي يأخذونا في مشوار إلى البيضا،وكانت آنذاك قرية صغيرة
ولكنها قرية جميلة،وتمتاز بأنّ الشباب والصبايا فيها يخرجون كلّ مساء في
نزهة ،كانوا يطلقون عليها (المشوار)ولاأدري إن كانت هذه العادة الجميلة باقية
إلى اليوم،أم أنّ متاعب الحياة العصرية وهمومها، جعلتها من ذكريات الماضي السعيد،ذكريات الصبا والشباب.
وجاء اليوم الثاني،وحضرت وصديقي إلى النادي الرياضي في الموعد المحدّد،وانتظرنا..
وطال انتظارنا،ولكن لمّا يحضر أحد من الأصدقاء(المصايتة)والذين تعرفنا إليهم أمس،ولا ندري حتى اليوم ،لماذا نكثوا بوعودهم ولم يفوا!!،وكانت هذه الحادثة مجال تندّر ظريف، واستفسار ينمّ عن غرابة ودهشة!!،مع كلّ قريب أو صديق من مصياف ألتقيه.أو أتعرف عليه بعدها.
بعد أن انقطع خيط أملنا في حضور الأصدقاء اقترح صديقي أن نذهب في رحلة خارج مصياف،سيراً على الأقدام ،وكما ذكرت،كنا يومها في سنّ الشباب لايهمنا المسير والصعود إلى ذروة جبل أشم،ولانتوجس منه خيفة كشباب اليوم،بعدها خرجنا من النادي وتوجهنا شمالاً،وعبرنا مايسمى يومها الباب الشمالي لمصياف
وأتذكر آنذاك لم يكن هناك من مبانٍ،أو منازل لسكان مصياف خارج سور مصياف،أو بشكل أدق خارج بابها الشمالي، على عكس ما رأيته اليوم من وجود
حارة كبيرة خارج البوابة الشمالية لسور مصياف القديم،والذي لاأدري إن كان
باقياً من آثاره شيء،كسور سلمية الذي لم يبق منه إلا الجدار الأثري مقابل مبن دار الحكومة.وهكذا دائماً،تدفع أوابدنا الأثرية،نتيجة التوسع السكني لمدننا وبلداننا،ونتيجة الإهمال المقصود أو الغير مقصود،ضريبة الاندثار والانهدام وربما أحياناً الزوال عن الخريطة الأثرية لوطننا،بينما البعثات الأثرية في الغرب تهتم في المحافظة على هذه الأوابد أكثر منّا،آخذة بعين الاعتبار قيمتها التاريخية والحضارية،أرجو مستقبلاً أن يحدث عكس هذا التوجه،من الشعب والمسئولين.
وأتذكر أيضاً أنّ الشاعر الشعبي(محمد الزرزوري)الملقب (أبو حسن). وهو من قرية الكافات الواقعة غرب سلمية.وكان آنذاك شاعراً ومطرباً مشهوراً في منطقتي سلمية ومصياف مع المطرب (صادق حديد).وهو من قرية بري الشرقي الواقعة شرق سلمية.(رحمهما الله).
كان الزرزوري قد تزوج من قريبة لي من مصياف،وأقام في دمشق وتعيّن يومها في فرقة الفنون الشعبية في الإذاعة السورية،ولم يكن التلفزيون قد عرف بعد.
المهم،أنّ بلدية مصياف وتكريماً لصهرها ومطربها الزرزوري،منحته قطعة أرض خارج الباب الشمالي،وقد عاينت معه هذه القطعة بنفسي على أرض الواقع،
ليقيم عليها منزلاً يسكن فيه عندما يأتي إليها في المناسبات.
و أتذكر يومها أننا كنّا نمزح عليه ونقول:(هل كلّ من صاهر المصايتة،تعطيه البلدية،قطعة أرض ليبني عليها بيتاً،إذاً يا أبا حسن سجل لنا على الدور)ويضحك
أبو حسن،ونضحك جميعاً.وتمضي السنون،وتطوي رحلة العمر صفحة أبي حسن،كما سوف تطوى(بعد طول عمر)صفحتنا،ويغادرنا أبو حسن إلى دار الآخرة،ولم يأخذ معه لامالاً ولاداراً،هو الموت الذي ساوى فيه الخالق الناس جميعاً،غنيهم وفقيرهم،وكما قال شاعر الزهد وفيلسوف المعرة،الشاعر(أبو العلاء المعري)ملخصاً هذه الفلسفة ببيت من الشعر:
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته == يوماً على آلة حدباء محمول
ومن يومها،لم أعد أعرف ما حلّ،بالبيت الذي شيدّه أبو حسن في تلك القطعة التي منحته إياها بلدية مصياف، وحتى أنني لم أعد أعرف ماحلّ بأسرة الزرزوري،لأنّ علاقاتي بأقربائي انقطعت تماماً،لأسباب لامجال لذكرها اليوم،
وربما يأتي ظرف آخر وأسردها على مسامعكم،فقط لتحكموا من قطع حبل صلة الرحم والقربى،وأنهى من جانبه أواصر المودة والوفاء بيننا،مع أنني كنت وما زلت أتمنى لتلك المودة لو دامت،ولأنّ ظلم ذوي القربى أشدّ تأثيراً ووقعاً في النفس وعليها.كما يذكر العلامة المرزوقي في شرح ديوان الحماسة للشاعر أبي تمام(عباسي):
التوجع من الحال، فيقول متمنياً: بودي إن يكونوا لو صلةٍ وقرابةٍ غير وصلتهم وقرابتهم،حتى لا يبلغ الجفاء من جهتهم مبالغة في نفوسنا، لأن ظلم ذوي القربى أشد تأثيراً.والشر إذا ورد على الإنسان من مظنة الخير كان أنفذ تحزيزا(تقطيعاً).
فما تدعي من خير عدوة داحسٍ فلم تنج منها يا ابن وبرة سالما
يذم ما أحمدوه من سبق داحسٍ وتبريزه، ويسوئ رأيهم في تبجحهم، ويعرفهم قبح عاقبة مااختاروه، وسوء مغبة ما شرعوا فيه).
بعدها،توجهت وصديق إلى طريق (مصياف ـ القدموس) وقطعنا فيه مسافة،ثم انعطفنا في طريق(شريك) جبلي باتجاه الغرب،وسرنا بين كروم العنب والتين،
وكانت آنذاك ثمرها ناضجاً،كما هو في هذه الأيام الخريفية الجميلة،كما ذكرت سابقاً.
وواصلنا صعودنا غرباً في شعاب ذلك الجبل،إلى أن وصلنا إلى مكان في أحد الكروم،تظلله شجرة تين كبيرة،ويتفجر بجانبها ينبوع ماء بارد وعذب كماء ا
الكوثر.وما أكثر الينابيع التي تنحدر من جبال مصياف في ذلك الوقت.وكذلك في سهول سلمية وواحات ريفها وبواديها.وعلى سبيل الذكر لاالإحصاء،كان يجري في سهول سلمية أكثر من ثلاثمائة عين، واليوم ندعو الله عزّ وجلّ أن يعيد لتلك الأيام دورتها ونماءها ،ليعمّ الخير ربوع سلمية ومصياف،بل الوطن بأكمله.
جلست وصديقي في ظلّ شجرة التين الكبيرة،واغتسلنا وشربنا من ماء النبع البارد،ونظر صديقي إلى شجرة التين المحملة بالثمار فوقنا،وقال:
ما أطيب لو نجد أحداً في هذا الكرم يبيعنا قليلاً من التين، لنضعه في الماء البارد،لنأكله ونستلذ بطعمه الشهي.
وكان على مقربة من مكان جلوسنا،شيخ مسنّ يعمل في جمع ثمار التين في ذلك من الصباح.وعندما رآنا نجلس في الحقل ولم نكن نعلم إن كان حقله أوحقل غيره،لأنّ حواكير الأرض في مصياف،عادة ما تكون صغيرة ومتداخلة.كما أعلم
وتعلمون.توجه الشيخ إلينا،وسلّم وجلس،فسأله صديقي:
عمّ هل هذا الكرم لك،فأجاب الشيخ:نعم.فأضاف صديقي:وهل تبيعنا قليلا من التين.
ضحك الشيخ من سؤاله،وقال:يبدو أنكم غريبون،أكيد من (بليد الشرق).
قال صديقي:نعم نحن من سلمية.وماحدث بعد ذلك هو أننا تعارفنا،وتبين لي أنّه يعرف جميع أقربائي من آل (مشرقي) في مصياف.وعرفنا الشيخ الوقور الذي احترمناه وأحبنّا،وحدثناه بقصتنا عن أصدقائنا المصايتة الذين تواعدنا معهم وأخلفوا الموعد.فاستنكر منهم هذا الموقف،أشد استنكار ودعانا إلى زيارته في بيته،ليمحو سوء ما فعلوه،وما تركه موقفهم من أثر سيء في نفوسنا.
وبد أن اطمأنت النفوس،وهدأت السريرة،قال الشيخ لصديقي مبتسماً:
ياعمي،لا أحد عندنا وهو في الكرم،يشتري تيناً ليأكل،
عندنا الغريب والقريب،والضيف وعابر السبيل إذا ما مرّ في أيّ كرم من كروم مصياف،يقطف ويأكل ما تشتهي نفسه،دون إذن من صاحبه.المهم أن لايحمل معه شيئاً بقصد الهدية أو البيع.
وأنتما كان من حقكما أن تقطفا ما تشتهيان من هذه الشجرة،وتأكلان ما لذ وطاب
لكما من ثمارها،دون أن تحملا معكما شيئاً.
ثم نهض الشيخ وقطف كمية كبيرة من ثمار التين،ووضعها في الماء البارد،
ثم أكلت وصديقي.وشكرنا الشيخ العجوز والذي لم أعد أتذكر اسمه،أو من أيّ عائلة من مصياف.لقد حديث هذا الشيخ ،العذب أشهى من ثمار التين التي أكلناها مبتردة في كرمه ،وحديثه هذا،وإكرامه لنا،أنسانا إخلاف أصدقاء النادي.
وظلّ هذه الذكرى محفورة في ذاكرتي،وأرددها على مسامع كلّ صديق أو قريب ألتقيه من مصياف.وتمرّ الأيام وتبقى ذكرى الأيام الجميلة والسعيدة التي قضيناها مع أصدقائنا في سنّ الشباب،أدام الله شبابكم وأبقاكم من الأوفياء والمخلصين لأصدقائكم.
فبعض أصدقاء مسير اليوم،أتعبهم وأرهقهم المسير الشاق الذي نفذناه من بلدة
( قيرون )إلى بلدة(حيالين) مروراً بمنطقة دير ماما الجبلية،والواقعتين في ريف مصياف الجبلي،فما كان من بعضهم بعد أن أعياه مواصلة رياضة المشي والسير في هذه الدروب الأفعوانية، والمسالك الجبلية الصاعدة نحو قمة الجبل الأخضر،
إلا أن صعد صهوة أوّل وسيلة مواصلات عابرة،مختصراً مسيره،ومستريحاً من عنائه،كان منظرهم وهم يمرون في الشاحنات أشبه بعمال التراحيل،كان المشهد
مضحكاً ومؤثراً،فيا للعجب والدهشة من صلابة ومراس شباب اليوم!!.
هذا و لم ينسهم صعوبة الطريق ،جمال الريف والمناظر الخلابة التي تمتد على امتداد رؤانا ونظرنا صعوبة الطريق،آكام وتلال ووديان مكسوة برداء من الأشجار الحراجية الكبيرة والمعمرة،ومنها أشجار السنديان و....والحور والجوز..حقاً إنها غابات طبيعية عذراء تنقلنا تحت أغصانها الوارفة، وتسقط علينا أشعة الشمس من خلال فروع الأغصان وكأنها دنانير ذهبية ،فنتذكّر قول شيخ الشعراء(أبي الطيب المتنبي) يصف هذا المشهد الخلاب:
فسرتُ وقد حجبْن الشَّمسَ عنِّي == وجِئنَ من الضياءِ بما كَفاني
وألقى الشرقُ منها في ثيابي == دنا نيرا تفرُّ من البَنانِ
هذا ولم ينسهم مشقة الطريق إطلالة الجبل أو سلسلة الجبال الممتدة إلى ما لانهاية،والتي تستريح في ظلالها بيارات وبساتين ومنازل دير ماما الجميلة والمسيجة بأشجار الزيتون والتين والصبار والبطم ودوالي العنب التي تدلّت عناقيدها منها حمراء شهيّة، مثلها مثل ثمار التين الناضجة والتي كانت تتدلى من أغصان شجيراتها المزروعة في كل مكان على جانبي طريق المسير،وأمام كلّ حاكورة من حوا كير القرى التي تجاوزناها في مسيرنا العسير اليوم، وكم كان كرم وعطاء هذه الكروم والأشجار سخياً،ككرم الأهالي في قيرون ودير ماما الذين كانوا عندما يروننا نلهث في مسيرنا،ويرون العرق يتصبب من جباهنا،وهذا شيىء طبيعي في مثل هذا اليوم الخريفي الحار،إنها ضريبة حمّى الرياضة الجبلية الشاقة،والمسير الشاق والطويل الذي كنّا ننفذه.كان الأهالي(مشكورين) وعلى جانبي الطريق يمدون خراطيم المياه العذبة لكي نبترد منها ونشرب ونملأ زجاجاتنا البلاستيكية والتي أفرغناها في صعود طريق المسير الجبلي والشاق والمضني، وكان مصدر هذه المياه، من عيون وأنابيع طبيعية تتفجر من كتف الجبل الذي تتكىء عليها البيوت الريفية الجميلة والممتدة كشريط أخضر جميل ومتوزعة بارتفاعات متباينة على سفوح الجبل الأخضر الشاهق.
للموضوع تتمة...أرجو المتابعة مستقبلاً .وشكرا
[b]الكاتب الصديق:حيدر حيدر
سلمية في /20/9/2009[/b]