من وحي المسير الرياضي إلى(المزيرعة)
على الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة الموافق لـ /11/12/2009
انطلق بنا المسير الرياضي والبيئي لهذا الأسبوع من مقرّ جمعية أصدقاء سلمية،
ميممين سهل المزيرعة الواقع إلى الغرب من مدينة سلمية، ببضعة كيلو مترات،أو (أمّ القاهرة) كما أطلق عليها عميد الأدب العربي (طه حسين)،يقول الشاعر ابن هانئ الأندلسي في المعز لدين الله باني القاهرة والتي نسبت إليها سلمية:
ابْني العَوالِي السَّمهريَّةِ والموا == ضِي المشرفيَّةِ والعديدِ الأَكثرِ
منْ منكُمُ الملكُ المطاعُ كأَنَّهُ == تحتَ السوائغِ تُبَّعٌ في حِمْيَرِ
يُحكى أَنَّه لمَّا أنشدها ترجَّلَ العسكر كلّه، ولم يبقَ راكب سوى المعز، فلا يعلم بيت شعر كان جوابه نزول عسكر جرار وغيره.
وعند الساعة الثامنة والربع درجت أولى خطواتنا في دروب مسير هذا اليوم هذه الدروب المتشعبة والمتابعدة والمتلاقية في سهل (المزيرعة).هذا السهل الشاسع والواسع والذي تناثرت فيه المزارع الريفية في كلّ اتجاه كما تتناثر لالىء عقد من زمرد أخضر انقطع خيط ترابطها، بعض هذه المزارع في غاية الروعة الهندسية والمعمارية،مما يدلّ على غنى ويسر أصحابها،وبعضهن ماتزال قلة الموارد وضيق ذات اليد يلبسهنّ ثوباً من القناعة والبساطة لاتقارن بمثيلاتها من المزارع الفخمة،وحتى في امتلاك المزارع يظهر التمييز الطبقي،ما بين الغني والفقير.
على كلّ حال، إنني وأمثالي من ذوي الدخل المحدود سابقاً،والمتقاعدين حالياً،لم ولن نحلم بامتلاك مزرعة،ولو كانت من مزارع الدروايش والفقراء ،وما حلم الفقير بالغنى إلا كما قال الشاعر أحمد بن حسين الكيواني وهو شاعر، من أهل دمشق مولداً ووفاةً (العصر المملوكي):
لا يَعدُّ النَعيم وَالفَخر شَيئاً == غَير تَنفيس كُربة الفُقَراءِ
ولكنّ عزاء الفقراء في هذه الصورة الجميلة التي رسمها الشاعر(ابن هذيل القرطبي)(من العصر الأندلسي) والتي ساوى فيها بينهم، وبين الأغنياء، فليس لأحد منهم غطاء أوحماية تحميه من نوائب الدهر مهما أشاد،وتأنّق في البناء:
عجبتُ لمن تأنّق في بناءٍ == أميناً مِن تَصاريف الدُّهُورِ
ألَم يَبصُر بما قد خرَبتهُ ال == دُهوز من المدائن والقُصُورِ
وأقوامٍ مَضوا قَوماً مُقَوما == وصارَ صَغيرهُم إثرَ الكبيرِ
لَعَمرُ أبيهمُ لو أبصرُوهُم == لما عرفُوا الغنيَّ منَ الفقيرِ
ومنذ انطلاقة الأصدقاء في مسيرهم الرياضي لهذا الأسبوع،وحتى نقطة وصولهم
إلى بيت صديقنا، وعلى مدى أكثر من ساعتين من المشي المتواصل،قطعوا فيها مسافة أكثر من عشرة كيلو مترات،ساروا فيها في دروب المسير على شكل أرتال ثنائية وثلاثية ورباعية،بعضهم يسير وئيداً وهو يتباطأ في مشيته،وبعضهم يغذّ السير فتراه في مقدمة فريق المسير،وعلى طول الطريق الممتد من بوابة حمص جنوباً.. وحتى مشارف سلمية،كان الأصدقاء يتناثرون في مسيرهم كما تتناثر حبات قمح ينثرها فلاح في حقله،وعلى جانبي هذا الطريق الذي يغير دوماً
اتجاهه(غرباً ثم شمالاّ ثم شرقاً ثم شمالاً ثم جنوباً).على جانبي هذا الطريق المتعرج،كنت ترى بساط المزارع المفروش على كامل مساحة سهل المزيرعة الواسع،وكنت تبصر الفلاحين يقومون بمدّ أنابيب شبكة تنقيط المياه،من أجل ريّ مزروعاتهم الظمأى إلى غيث السماء،وبعض الفلاحين يروون مزروعاتهم الشتوية البلدية من (خس وبقدونس وسلق وفجل وجزر..الخ)،وكانت هذه المزروعات الخضراء اليانعة مصدر إعجابنا ،مما جعل البعض يتمنى شراء
أنواع منها.وكانت مصادر المياه التي تروي هذه الحقول،آبار مياه سطحيّة حفرت في كلّ مزرعة نمرّ بها،تضخ بواسطة غطاس يرفع ويدفع المياه إلى شبكة التنقيط الموزعة على أثلام مزروعات الحقل،وأحياناً كنت تسمع صوتاّ منتظماً لدقات محرك يعمل على المازوت،أشبه بصوت آلة إيقاع موسيقية،
وعلى امتداد دروب المسير كنت ترى أشجار الصنوبر والزيتون وتين الصبار وأشجار الرمان وقد سورت بها أطراف وحدود كلّ مزرعة مررنا بها، وعند مدخل كلّ منها كان يستقبلنا ويودعنا نباح الكلاب،وصياح الديكة وثغاء الغنم المنبعث من قطعان الماشية التي سرحت في المرعى وكلّ قطيع نصب بالجوار منه بيت من الشعر،منظره يوحي بقساوة عيش البدو ورعاة الأغنام، وهم يهتمون بمواشيهم في مثل هذه الأيام من بداية فصل الشتاء البارد.
إنّ كلّ ما شاهدناه،يمثل مشهداً ريفياً جميلاً يأسرك بسحره ويشدّ بزخرفه وألوان طبيعته البراقة،وأنت تعبر كلّ هذه المهاد والوهاد والتلال القريبة،ومنها تلّ المزيرعة،هذا التلّ الذي جرت على مسرح كهوفه ومغاوره قصة حقيقية تحكي شهامة وفروسية شباب سلمية،الذين كانوا وما زالوا يدافعون عن مدينته ضدّ كلّ معتد أثيم ومن يدافع عن مدينته ويحميها من كلّ خطر يوشك أن يحدق بها،يدافع عن وطنه بكلّ مايملك.ولسان حالهم يعبّر عما وصفه الشاعر الجاهلي(المرقش الأكبر) من شهامة العربي واندفاعه ضدّ أيّ خطر يتعرض له قومه،بقوله:
إنّا لمن معشر أفنى أوائلهم == قيل الكماة ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منّا واحد فدعوا == من فارس خالهم إيّاه يعنونا
وهذا هو حال بطل هذه القصة التي تحكي: بأنّ رجلاً غريباً سمي التل باسمه فيما بعد، جعل سكناه في مغاور هذا التل،وقديماً كان طريق سلمية حمص يمرّ بهذا المكان،وكلما أغرق ظلام ليل هذا المكان بطيلسانه،عمد المارة إلى الابتعاد عن المرور بهذا المكان،خوفاً من هذا الرجل،الذي كان يعترضهم ويسلبهم ما لديهم من مال ومتاع،حتى تحوّل بنظرهم إلى قاطع طريق،يخشونه ويتناقلون أخبار أفعاله الآثمة والشريرة،وعندما أصبح قاطع الطريق هذا خطراً لايمكن السكوت عنه،تنادى شباب سلمية، وتشاوروا فيما بينهم،من منهم يتصدى لهذا الرجل،ويوقفه عند حدّه؟؟،وفي إحدى المضافات التي كانت قديماً بمثابة مقاهي هذه الأيام،تطوّع العديد منهم للقيام بهذه المهمة التي هي في الحقيقة من مسؤولية الجميع،ولكنّ شاباً مقداماً من فتوة سلمية أيام زمان،قال لهم:اتركوه لي وحدي.
وفعلاً في ظلام نفس الليلة، قصد الشاب الشهم مكان قاطع الطريق،ومرّ بالطريق المجاور لهذا التل الذي نحن بصدد رواية حكايته،فاعترضه قاطع الطريق واشتبك مع الشاب في عراك طويل،ولكن لما يمض وقت طويل حتى تمكن الشاب
السلموني من صرعه ،وشدّ يديه خلفه، وقيّده وقاده إلى دار الضيافة
حيث يسهر أكثر وجهاء الناس في ذلك الوقت،وما أن بلغاها حتى دخل الغريب على صاحب المضافة وطلب من أن يحميه من غضب الناس، فحماه لأنّ أخلاق العرب لاتسمح الاعتداء على رجل دخل عليك في منزلك حتى ولو كان عدوّك،وقد عبّر الشاعر(ابن نباتة السعدي(من شعراء سيف الدولة) عن هذه الأخلاق بالقول:
ضَمِنَ الحمايةَ والكفايةَ ماجدٌ == فيهِ الشجاعةُ والندى أخلاق
وهنا اشترط الناس على قاطع الطريق،أن يجلو عن منطقة سلمية نهائياً وألا يعود إليها مستقبلاً،مقابل ضمان أمنه وسلامته والسماح له بالخروج من سلمية،
وإن سوّلت نفسه الرجوع إليها مرة ثانية،هدر دمه من أيّ شخص يراه، أو يلتقي به في أراضي سلمية وريفها،وفعلاً وافق الرجل على شروطهم،وقبيل بزوغ الفجر، حمل بقايا أمتعته، ورحل إلى غير رجعة،وإن دلّت هذه القصة على مغزى فإنها تدلّ على شجاعة وشهامة شباب سلمية، وعفوهم عن غريمهم عند المقدرة.وقد جاء في المثل العربي(إنما العفو عند المقدرة) ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار:
كريم له وجهان وجه لدى الرضا == أسيلٌ، ووجه في الكريهة باسل
وليس بمعطي العفو عن غير قدرة == ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل
وقال آخر في العفو بعد القدرة:
أسدٌ على أعدائه == ما إن يلين ولا يهون
فإذا تمكّن منهم == فهناك أحلم ما يكون
وفي صباح مسير هذا اليوم من أيام كانون الأول، وعلى خلاف ما يكون عليه الطقس في مثل هذه الأيام الخريفية الباردة نسبياً،كان الطقس دافئاً وبهيجاً،فظلال الشمس الخجولة تلقي بتحيتها على وجه الطبيعة المشرقة الوضاءة،والمكتسية بحلة خضراء للنباتات الشتوية التي كان بعضها يفرش فوقها بساطه السندسي، فيزين جمال الأرض ،لتتنور وتصبح أكثر بهاء وتألقاً.ولشاعرنا أبي القاسم الشابي لحن جميل يصف جمال الطبيعة في صباح يوم مشرق من هذه الصباحات الضبابية النديّة،لقد غنّى الشاعر بإبداعه المتميّز:
للضَّبابِ المورّد المتلاشي == كخيالاتِ حالمٍ مفتونِ
للمساءِ المطلِّ للشَّفَقِ السَّا == جي لسِحْرِ الأَسى وسِحْرِ السُّكونِ
للعبيرِ الَّذي يرفرفُ في الأفْ == قِ ويفنى مِثْلَ المنى في سكونِ
للأغاني التي يُرَدِّدُها الرَّا == عي بمزمارِهِ الصَّغيرِ الأَمينِ
حقاً إنه نشيد عذب لطبيعة ريفية جميلة،أشبه بطبيعة سهل المزيرعة الذي ننفذ مسيرنا الرياضي فيه ،في صباح هذا اليوم،ومما يزيد في سحر المنظر مشهد
قطرات ندى الصباح وهي تمسح مآقي أوراقه، وكأنها تسقيها لتطفئ ظمأها إلى غيث السماء، الذي كان شحيحاً في هذا العام قياساً إلى السنوات الماضية.ومما يزيد في حزننا وحزن الطبيعة هو اصفرار أوراق الزرع اصفراراً يصل إلى حدّ اليباس والموات،إنّه الجفاف وقلة المطر الذي أثّر ويؤثر على الزرع والضرع والغطاء النباتي وينذر بالتصحر في منطقتنا التي تعتمد بشكل أساسي على الأمطار الخريفية،لتزود جوف الأرض بخزان من المياه ،يعتمد عليه في أيام الصيف القائظة.وكأنّ شباب الحياة النضر لمنطقتي قد ولّى،وآن وقت المشيب أعوام تتوالى وراء أعوام،وكلّ عام نستبشر بفرح الطبيعة وبتجدد شبابها وبموسم يزفّ بشرى الخصب والنماء لأبناء مدينتي بل لأبناء وطني في كلّ مكان،وكما قال الشاعر علي الجارم وهو يعبّر عن عطاء وزخم الشباب:
إنَّ الشَّبَابَ رَحِيقُ أَزْهَارِ الرُّبا == وَحَفِيفُ غُصْنِ الْبَانَةِ الأُمْلُودِ
ومَطِيَّةُ الآمال في رَيْعَانِهَا == وسِرَاجُ لَيْلِ السَّاهِدِ المَجْهُودِ
وبَشَاشَةُ الدُّنيا إذا ما أقْبَلَتْ == ونجاةُ وَعْدٍ مِنْ أَكُفِّ وَعِيدِ
على الساعة الثامنة من صباح يوم الجمعة الموافق لـ /11/12/2009
انطلق بنا المسير الرياضي والبيئي لهذا الأسبوع من مقرّ جمعية أصدقاء سلمية،
ميممين سهل المزيرعة الواقع إلى الغرب من مدينة سلمية، ببضعة كيلو مترات،أو (أمّ القاهرة) كما أطلق عليها عميد الأدب العربي (طه حسين)،يقول الشاعر ابن هانئ الأندلسي في المعز لدين الله باني القاهرة والتي نسبت إليها سلمية:
ابْني العَوالِي السَّمهريَّةِ والموا == ضِي المشرفيَّةِ والعديدِ الأَكثرِ
منْ منكُمُ الملكُ المطاعُ كأَنَّهُ == تحتَ السوائغِ تُبَّعٌ في حِمْيَرِ
يُحكى أَنَّه لمَّا أنشدها ترجَّلَ العسكر كلّه، ولم يبقَ راكب سوى المعز، فلا يعلم بيت شعر كان جوابه نزول عسكر جرار وغيره.
وعند الساعة الثامنة والربع درجت أولى خطواتنا في دروب مسير هذا اليوم هذه الدروب المتشعبة والمتابعدة والمتلاقية في سهل (المزيرعة).هذا السهل الشاسع والواسع والذي تناثرت فيه المزارع الريفية في كلّ اتجاه كما تتناثر لالىء عقد من زمرد أخضر انقطع خيط ترابطها، بعض هذه المزارع في غاية الروعة الهندسية والمعمارية،مما يدلّ على غنى ويسر أصحابها،وبعضهن ماتزال قلة الموارد وضيق ذات اليد يلبسهنّ ثوباً من القناعة والبساطة لاتقارن بمثيلاتها من المزارع الفخمة،وحتى في امتلاك المزارع يظهر التمييز الطبقي،ما بين الغني والفقير.
على كلّ حال، إنني وأمثالي من ذوي الدخل المحدود سابقاً،والمتقاعدين حالياً،لم ولن نحلم بامتلاك مزرعة،ولو كانت من مزارع الدروايش والفقراء ،وما حلم الفقير بالغنى إلا كما قال الشاعر أحمد بن حسين الكيواني وهو شاعر، من أهل دمشق مولداً ووفاةً (العصر المملوكي):
لا يَعدُّ النَعيم وَالفَخر شَيئاً == غَير تَنفيس كُربة الفُقَراءِ
ولكنّ عزاء الفقراء في هذه الصورة الجميلة التي رسمها الشاعر(ابن هذيل القرطبي)(من العصر الأندلسي) والتي ساوى فيها بينهم، وبين الأغنياء، فليس لأحد منهم غطاء أوحماية تحميه من نوائب الدهر مهما أشاد،وتأنّق في البناء:
عجبتُ لمن تأنّق في بناءٍ == أميناً مِن تَصاريف الدُّهُورِ
ألَم يَبصُر بما قد خرَبتهُ ال == دُهوز من المدائن والقُصُورِ
وأقوامٍ مَضوا قَوماً مُقَوما == وصارَ صَغيرهُم إثرَ الكبيرِ
لَعَمرُ أبيهمُ لو أبصرُوهُم == لما عرفُوا الغنيَّ منَ الفقيرِ
ومنذ انطلاقة الأصدقاء في مسيرهم الرياضي لهذا الأسبوع،وحتى نقطة وصولهم
إلى بيت صديقنا، وعلى مدى أكثر من ساعتين من المشي المتواصل،قطعوا فيها مسافة أكثر من عشرة كيلو مترات،ساروا فيها في دروب المسير على شكل أرتال ثنائية وثلاثية ورباعية،بعضهم يسير وئيداً وهو يتباطأ في مشيته،وبعضهم يغذّ السير فتراه في مقدمة فريق المسير،وعلى طول الطريق الممتد من بوابة حمص جنوباً.. وحتى مشارف سلمية،كان الأصدقاء يتناثرون في مسيرهم كما تتناثر حبات قمح ينثرها فلاح في حقله،وعلى جانبي هذا الطريق الذي يغير دوماً
اتجاهه(غرباً ثم شمالاّ ثم شرقاً ثم شمالاً ثم جنوباً).على جانبي هذا الطريق المتعرج،كنت ترى بساط المزارع المفروش على كامل مساحة سهل المزيرعة الواسع،وكنت تبصر الفلاحين يقومون بمدّ أنابيب شبكة تنقيط المياه،من أجل ريّ مزروعاتهم الظمأى إلى غيث السماء،وبعض الفلاحين يروون مزروعاتهم الشتوية البلدية من (خس وبقدونس وسلق وفجل وجزر..الخ)،وكانت هذه المزروعات الخضراء اليانعة مصدر إعجابنا ،مما جعل البعض يتمنى شراء
أنواع منها.وكانت مصادر المياه التي تروي هذه الحقول،آبار مياه سطحيّة حفرت في كلّ مزرعة نمرّ بها،تضخ بواسطة غطاس يرفع ويدفع المياه إلى شبكة التنقيط الموزعة على أثلام مزروعات الحقل،وأحياناً كنت تسمع صوتاّ منتظماً لدقات محرك يعمل على المازوت،أشبه بصوت آلة إيقاع موسيقية،
وعلى امتداد دروب المسير كنت ترى أشجار الصنوبر والزيتون وتين الصبار وأشجار الرمان وقد سورت بها أطراف وحدود كلّ مزرعة مررنا بها، وعند مدخل كلّ منها كان يستقبلنا ويودعنا نباح الكلاب،وصياح الديكة وثغاء الغنم المنبعث من قطعان الماشية التي سرحت في المرعى وكلّ قطيع نصب بالجوار منه بيت من الشعر،منظره يوحي بقساوة عيش البدو ورعاة الأغنام، وهم يهتمون بمواشيهم في مثل هذه الأيام من بداية فصل الشتاء البارد.
إنّ كلّ ما شاهدناه،يمثل مشهداً ريفياً جميلاً يأسرك بسحره ويشدّ بزخرفه وألوان طبيعته البراقة،وأنت تعبر كلّ هذه المهاد والوهاد والتلال القريبة،ومنها تلّ المزيرعة،هذا التلّ الذي جرت على مسرح كهوفه ومغاوره قصة حقيقية تحكي شهامة وفروسية شباب سلمية،الذين كانوا وما زالوا يدافعون عن مدينته ضدّ كلّ معتد أثيم ومن يدافع عن مدينته ويحميها من كلّ خطر يوشك أن يحدق بها،يدافع عن وطنه بكلّ مايملك.ولسان حالهم يعبّر عما وصفه الشاعر الجاهلي(المرقش الأكبر) من شهامة العربي واندفاعه ضدّ أيّ خطر يتعرض له قومه،بقوله:
إنّا لمن معشر أفنى أوائلهم == قيل الكماة ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منّا واحد فدعوا == من فارس خالهم إيّاه يعنونا
وهذا هو حال بطل هذه القصة التي تحكي: بأنّ رجلاً غريباً سمي التل باسمه فيما بعد، جعل سكناه في مغاور هذا التل،وقديماً كان طريق سلمية حمص يمرّ بهذا المكان،وكلما أغرق ظلام ليل هذا المكان بطيلسانه،عمد المارة إلى الابتعاد عن المرور بهذا المكان،خوفاً من هذا الرجل،الذي كان يعترضهم ويسلبهم ما لديهم من مال ومتاع،حتى تحوّل بنظرهم إلى قاطع طريق،يخشونه ويتناقلون أخبار أفعاله الآثمة والشريرة،وعندما أصبح قاطع الطريق هذا خطراً لايمكن السكوت عنه،تنادى شباب سلمية، وتشاوروا فيما بينهم،من منهم يتصدى لهذا الرجل،ويوقفه عند حدّه؟؟،وفي إحدى المضافات التي كانت قديماً بمثابة مقاهي هذه الأيام،تطوّع العديد منهم للقيام بهذه المهمة التي هي في الحقيقة من مسؤولية الجميع،ولكنّ شاباً مقداماً من فتوة سلمية أيام زمان،قال لهم:اتركوه لي وحدي.
وفعلاً في ظلام نفس الليلة، قصد الشاب الشهم مكان قاطع الطريق،ومرّ بالطريق المجاور لهذا التل الذي نحن بصدد رواية حكايته،فاعترضه قاطع الطريق واشتبك مع الشاب في عراك طويل،ولكن لما يمض وقت طويل حتى تمكن الشاب
السلموني من صرعه ،وشدّ يديه خلفه، وقيّده وقاده إلى دار الضيافة
حيث يسهر أكثر وجهاء الناس في ذلك الوقت،وما أن بلغاها حتى دخل الغريب على صاحب المضافة وطلب من أن يحميه من غضب الناس، فحماه لأنّ أخلاق العرب لاتسمح الاعتداء على رجل دخل عليك في منزلك حتى ولو كان عدوّك،وقد عبّر الشاعر(ابن نباتة السعدي(من شعراء سيف الدولة) عن هذه الأخلاق بالقول:
ضَمِنَ الحمايةَ والكفايةَ ماجدٌ == فيهِ الشجاعةُ والندى أخلاق
وهنا اشترط الناس على قاطع الطريق،أن يجلو عن منطقة سلمية نهائياً وألا يعود إليها مستقبلاً،مقابل ضمان أمنه وسلامته والسماح له بالخروج من سلمية،
وإن سوّلت نفسه الرجوع إليها مرة ثانية،هدر دمه من أيّ شخص يراه، أو يلتقي به في أراضي سلمية وريفها،وفعلاً وافق الرجل على شروطهم،وقبيل بزوغ الفجر، حمل بقايا أمتعته، ورحل إلى غير رجعة،وإن دلّت هذه القصة على مغزى فإنها تدلّ على شجاعة وشهامة شباب سلمية، وعفوهم عن غريمهم عند المقدرة.وقد جاء في المثل العربي(إنما العفو عند المقدرة) ذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار:
كريم له وجهان وجه لدى الرضا == أسيلٌ، ووجه في الكريهة باسل
وليس بمعطي العفو عن غير قدرة == ويعفو إذا ما أمكنته المقاتل
وقال آخر في العفو بعد القدرة:
أسدٌ على أعدائه == ما إن يلين ولا يهون
فإذا تمكّن منهم == فهناك أحلم ما يكون
وفي صباح مسير هذا اليوم من أيام كانون الأول، وعلى خلاف ما يكون عليه الطقس في مثل هذه الأيام الخريفية الباردة نسبياً،كان الطقس دافئاً وبهيجاً،فظلال الشمس الخجولة تلقي بتحيتها على وجه الطبيعة المشرقة الوضاءة،والمكتسية بحلة خضراء للنباتات الشتوية التي كان بعضها يفرش فوقها بساطه السندسي، فيزين جمال الأرض ،لتتنور وتصبح أكثر بهاء وتألقاً.ولشاعرنا أبي القاسم الشابي لحن جميل يصف جمال الطبيعة في صباح يوم مشرق من هذه الصباحات الضبابية النديّة،لقد غنّى الشاعر بإبداعه المتميّز:
للضَّبابِ المورّد المتلاشي == كخيالاتِ حالمٍ مفتونِ
للمساءِ المطلِّ للشَّفَقِ السَّا == جي لسِحْرِ الأَسى وسِحْرِ السُّكونِ
للعبيرِ الَّذي يرفرفُ في الأفْ == قِ ويفنى مِثْلَ المنى في سكونِ
للأغاني التي يُرَدِّدُها الرَّا == عي بمزمارِهِ الصَّغيرِ الأَمينِ
حقاً إنه نشيد عذب لطبيعة ريفية جميلة،أشبه بطبيعة سهل المزيرعة الذي ننفذ مسيرنا الرياضي فيه ،في صباح هذا اليوم،ومما يزيد في سحر المنظر مشهد
قطرات ندى الصباح وهي تمسح مآقي أوراقه، وكأنها تسقيها لتطفئ ظمأها إلى غيث السماء، الذي كان شحيحاً في هذا العام قياساً إلى السنوات الماضية.ومما يزيد في حزننا وحزن الطبيعة هو اصفرار أوراق الزرع اصفراراً يصل إلى حدّ اليباس والموات،إنّه الجفاف وقلة المطر الذي أثّر ويؤثر على الزرع والضرع والغطاء النباتي وينذر بالتصحر في منطقتنا التي تعتمد بشكل أساسي على الأمطار الخريفية،لتزود جوف الأرض بخزان من المياه ،يعتمد عليه في أيام الصيف القائظة.وكأنّ شباب الحياة النضر لمنطقتي قد ولّى،وآن وقت المشيب أعوام تتوالى وراء أعوام،وكلّ عام نستبشر بفرح الطبيعة وبتجدد شبابها وبموسم يزفّ بشرى الخصب والنماء لأبناء مدينتي بل لأبناء وطني في كلّ مكان،وكما قال الشاعر علي الجارم وهو يعبّر عن عطاء وزخم الشباب:
إنَّ الشَّبَابَ رَحِيقُ أَزْهَارِ الرُّبا == وَحَفِيفُ غُصْنِ الْبَانَةِ الأُمْلُودِ
ومَطِيَّةُ الآمال في رَيْعَانِهَا == وسِرَاجُ لَيْلِ السَّاهِدِ المَجْهُودِ
وبَشَاشَةُ الدُّنيا إذا ما أقْبَلَتْ == ونجاةُ وَعْدٍ مِنْ أَكُفِّ وَعِيدِ
ومن هذا الهتاف الطرب لوقع الشباب،كنا ننظر إلى معاني مسيرنا الرياضي عبر الطبيعة الساحرة،إنه تجديد للشباب وبروح الشباب لمن جاوز سنّ الشباب،وبصحبة أصدقائنا الشباب الذي يتدفق في عروقهم دم الشباب الذي وصفه الشاعر الجارم بقوله:
وَدَمُ الشّباب له روائعُ نَشْوَةٍ == ما نَالَها يوماً دَمُ العُنْقُودِ
ومن هذا الإيقاع الطرب لمسير اليوم كانت تلبيتنا لدعوة صديقنا الشاب(بشارشعراني)عضو جمعيّة(سلو فود)للاحتفاء معه بعيد هذه الجمعيّة
البيئيّة للذواقة،الذي يصادف في مثل هذا اليوم،منذ أن تأسست عام
1989
للتصدي للوجبات السريعة وسرعة الحياة،وإحياء الذائقة المحليّة في تذوق الطعام وهي جمعية ذات صبغة عالميّة لديها في الوقت الحالي أكثر من
(100,0000(
ألف عضو منتشرين في أنحاء العالم،وبهذه المناسبة السعيدة استضافنا صديقنا بشار،وبالتعاون والتنسيق مع أسرة المسير الرياضي في جمعيّة أصدقاء سلمية
أعدّت أسرة بشار وليمة طازجة من (الهريسة) السلمونية لأصدقاء المسير الرياضي،الذين هم في الأساس أعضاء في جمعيّة أصدقاء سلمية، التي تحرص على ممارسة مثل هذه النشاطات وتواكب وتشجع مسيرة القائمين عليها.
وباسمي وباسم أصدقاء المسير الرياضي أوجه عظيم الشكر وفائق التقدير والاحترام لأفراد أسرة صديقنا بشار(أباً وأماً وأولاداً وأحفاداً) على حسن استقبالهم،و سخاء كرمهم في ضيافتنا،وسهرهم على راحتنا وسعادتنا،هذا وقد عبّر الأصدقاء أصدق تعبير عن سعادتهم بهذا اللقاء، فبعد أن تناولوا وجبة شهية من الهريسة الطازجة، وعلى وقع أهازيج سيّدة البيت،قاموا بالتعبير عن
غبطتهم وفرحهم من خلال الرقصات والدبكات التي نفذوها على وأمام مصطبة دار صديقنا الجميلة المسوّرة بأشجار الصنوبر والزيتون،والمغروسة أرض حديقتها بشجيرات الكرمة والتين،وأجمل من ذلك الدار هو بشر أصحابها، كما عبّر عن هذا المعنى شاعرنا أبي القاسم الشابي في قوله:
هَهُنا في خمائل الغابِ تَحْتَ الزَّا == نِ والسِّنديان والزَّيتونِ
أَنتِ أَشهى من الحَيَاةِ وأَبهى == من جمالِ الطَّبيعَةِ الميمونِ
ولقد شرح لنا صديقنا أهداف جمعية(سلو فود)التي أراني قلباً وقالباً من أنصارها،لأنها كما وضح صديقنا تعمل على فن طهي الطعام البيئي،الجيد والنظيف ليكون في متناول الجميع،ومهمتها تنحصر في الدفاع عن التنوع الحيوي في تحضير غذائنا،وتشجع على انتشار ثقافة التذوق والربط بين منتجي الغذاء الممتاز والمنتجين المشاركين من خلال النشاطات والمبادرات،وتقوم فلسفة أنصار هذه الجمعية على أنّ الناس منتجون وليسوا مستهلكين،وعندما يتمّ إعلامهم عن كيفية إنتاج غذائهم،وعن أولئك الذين ينتجونه بشكل فعّال،عندئذ يصبحون شركاء في طريقة الإنتاج.
وأخيراً نقدم من جمعيّة أصدقاء سلمية، ومن أصدقاء المسير الرياضي،إلى أعضاء جمعية (سلو فود)أطيب الأمنيات والتهنئة بمناسبة عيدها،راجين أن يحقق نشاطهم الأهداف البيئية المرسومة له،وأن نسعد معهم وبهم في تحقيق متعة تذوق الطعام والشراب الممتاز.
وإلى أن نلقاكم في مسير قادم ،نتمنى للجميع ليس فقط متعة تذوق الطعام والشراب الممتاز،بل السعادة والحبور على مرّ الأيام والدهور،وأن تكون لياليهم مطيّبة ومنتشاة بأزكى الرياحين والعطور.
سلمية في /11/12/2009
الكاتب:الصديق حيدر حيدر